سوريا: خراب.. واستبدال طبقة بأخرى!

موفق نيربية

الثلاثاء 2019/09/10
على الرغم من النجاحات التي ينبغي أن تكون باهرة، تلك التي حققها النظام مؤخراً في شمال حماة وجنوب إدلب، إلا أن الكآبة قد بقيت تغلّف هواء دمشق، ونظام الأسد، ولم تظهر تلك الأجواء الاحتفالية المعتادة، بإطنابها وتبشيرها بالنصر القادم المبين. ليس على حجم ما كان متوقعاً على الأقل. تعثّر النظام عموماً وتراجع أسهمه، بالمقارنة مع حاملي أسهمه الخارجيين أيضاً، ومصاعبه وهزاته الاقتصادية- الاجتماعية، ربما كانت من الأسباب التي جعلت تلك الكآبة تغلب وتسود.

بشكل متزامن مع تلك النجاحات العسكرية، قفز سعر الليرة السورية إلى الأسفل بمقدار كبير في شهر آب/أغسطس، ليستكمل أكثر من ثلاثين بالمئة من الانحدار منذ مطلع العام. بذلك يكون مجموع هبوط سعر الليرة منذ آذار/مارس 2011 حوالي أربع عشرة مرة حتى هذه الساعة، وما يعنيه ذلك بالنسبة للأسعار وأزمة المعيشة عموماً، وانهيار اقتصادي خصوصاً. رافقت هذا الانخفاض الأخير حركة شراء حثيثة في بيروت للدولار، كان يرافق حاجات الاستيراد سابقاً، وربما مع أشياء أخرى ما زالت غامضة حالياً.

من ذلك تأثيرات الإشاعات القوية حول مشاكل تجتاح الطبقة السائدة اقتصادياً وسياسياً في سوريا، بشكل خاص ما بين بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف، أمين مال العائلة ومدير أعمالها. وما زال الغموض يلف الأخبار والإشاعات تلك، والتي كان من المحتم أن تتزايد وتنمو مع كثرة الخصوم والأعداء.

ليس ذلك مهماً، بالمقارنة مع عددٍ من الظواهر التي برزت حادة في الآونة الأخيرة، والتي سيكون تناميها قدراً محتوماً خلال الفترة اللاحقة أيضاً. طبيعة النظام الزبائنية والعصبوية، التي تنهار حتى أقنعته البسيطة شيئاً فشيئاً، لتغدو حكومته محلّ سخرية كبيرة من حيث هي "حكومة"، ومن حيث يعجز المصرف المركزي وحاكمه عن التدخل أو حتى التعليق على ما يجري في الأسابيع الأخيرة، مع أنه محطّ مطالبات واتهامات مباشرة في مسائل عديدة تخصه وتخص اختصاصه ودوره المفترض.

مرّ النظام الأسدي بمراحل عديدة من التطور في سياسة الاستثمار والاستملاك والتوظيف التي يسلكها، منذ "استقرّ" بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهطلت عليه أموال الخليج، ليبدأ مشاريع عديدة وكبيرة يستكمل بها عدة الدولة وشكلها، مع فتح أبوابٍ واسعة لمكافأة كل المقربين والمخلصين، بدرجات متفاوتة من العمولات. وفي ثمانينات القحط، استمرّ في تمويل الدولة من خلال التضخم، مفسحاً المجال لتوسّع هائل في توزيع الثروات، ثم ليبدأ في توكيل محمد مخلوف مباشرة بسياسة حَلْبِ الاقتصاد وتنظيم توزيع المغانم، مع حصر تدريجي لها. في ما بعد، جاء دور الابن رامي مخلوف وأخوته، ليمسك بأبواب الاقتصاد الجديد، ابتداءً من الاتصالات والطاقة بأشكالها وغير ذلك، ليتحول بالتدريج إلى غولٍ لا يتوقف عند حدود.

استطاع رامي أن يقود أيضاً كلّ الحيتان الأخرى الراغبة بمثل هذه الولائم، عن طريق الشراكات والمساهمات في شركات قابضة. وأصبح شائعاً ومعروفاً وممارساً بشكل شبه علني أنه لا مشروع ولا وكالة مهمة يمرّ أو تمرّ إلا باتجاهه مباشرة، أو عن طريق الإذن الذي يعطيه بنسبة عمولة مباشرة أو لغرض معين.

أصبح الاقتصاد السوري في العشرية الأولى من هذا القرن، خاتماً في إصبع رامي، مع بعض التداخلات بحلقة أخرى لماهر الأسد، أو من في حكمه أو موكّلاً عنه.

في عشرية الثورة هذه طرأ طارئ جديد. حيث أصبح الحال شيئاً مختلفاً، يعتمد على اقتصاد الحرب، والتجارة مع مناطق الحصار، والتلاعب في التجارة الخارجية في ظل العقوبات، وتهريب النفط وتجارة المخدرات، والفوضى الشاملة. فظهرت أسماء جديدة، يرتبط بعضها بالروس وبعضها الآخر بإيران. كانت تجديداً وتطويراً لتلك الطبقة- العصابة السائدة بأخرى جديدة، أكثر قدرة ربما على اللعب مع الميليشيات المحلية والخارجية وأجهزة الأمن الدولية المختلفة والدخول في عمليات تبادل لا توفّر "داعش" أو النصرة أو حتى المعارضة المسلحة الأخرى في بعض المناطق. نموّ هذه الفئة الجديدة جاء مع بشائر ما يُسمّى إعادة الإعمار من قبل النظام، أو ما هو إعادة توزيع ليس للثروة أو الاستثمار وحسب، بل أيضاً للملكية العقارية، بمنهجية وإصرارٍ على التلاعب بأملاك الغائبين والمهجرين قسراً والنازحين إلي مناطق أخرى من سوريا، أو اللاجئين إلى خارجها.

يحاول النظام أن يرسم بذلك تصوره لحصة الأسد من إعادة الإعمار المفترضة والمختزلة، تصوره القائم على أنه يشبه العالم، أو أن العالم يشبهه: مجرد حركة مافيوزية كبيرة تتحكم بالكوكب، وكلّ ما عدا ذلك من قانون وقانون دولي، وحركة مجتمعات ودول حديثة، هو ظاهرٌ له باطن آخر.

والذي حدث فيما يبدو، مجرّد صدام موجتين مختلفتين، يرمز لإحداهما رامي مخلوف، وللثانية نجم صاعد اسمه سامر فوز. ليقال إن الإشاعات الأخيرة هي نتيجة لهذا الصراع الاقتصادي- المافيوزي، الذي ينعكس حاداً وبعنف على المستوى الاقتصادي- الاجتماعي. يُقال هنا أن الأسد استبدل المعتمد الأول بالثاني وزمرته أو أشباهه، ويُقال إن للصراع الخفي الروسي- الإيراني دوراً في ذلك. هذا الصراع حقيقة ملموسة يمكن تلمسها في صحف النظام نفسه، ومن خلال صحيفة رامي "الوطن" أيضاً، وفي معارك شتى ذات علاقة بالقروض المصرفية غير النظامية، التي ليست إلا نهباً مباشراً، ومواقف حاكم المصرف المركزي التي تقف مع طرف من دون طرف. ويمكن- مثلاً- مراجعة حيثيات وتطورات مشروع صغير هو تعاقد مع الدولة على تصفية ثلاثة ملايين طن مخلفات النفط في شمال- شرق سوريا، ولن تخفى خلفيات ذلك وعائدياتها على أي عين ترى.

أن يلجأ نظام إلى استبدال بنيته الاقتصادية- العصبوية بين عقد من الزمان وآخر، هو دليل حاسم على أن هنالك انهياراً يتزايد حدةً ومعانيَ. وإن تراجعت قيمة العملة وتزايدت الأسعار بمقدار 14 مرة، فذلك دليل على انعدام شرعية النظام المعني تماماً. الأهم من ذلك هو ما ينعكس على السكان وحياتهم وكآبتهم، وما لا ينعكس على حراكهم حتى الآن، وسيفعل حتماً.

كما أنه لسنة أخرى جديدة، تبقى تلك البلاد من بين الأكثر هشاشة وعرضة للفشل النهائي بين بلاد العالم في مؤشر البلدان الهشة الكيان للمنظمات الدولية ذات العلاقة، ولا يتحرك هذا العالم لمنع ذلك ووقفه!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024