الأرض..على وعد فلسطين

أحمد جابر

السبت 2021/04/03
الأرض هي الأرض، وفلسطين كلمة ومعنى، فلا يتغير التاريخ ولا تزيح الجغرافيا، والشعب الذي أعطوه أسماء شتّى، ونسبوه إلى بلادٍ شتى، له أرض واحدة، وله إسمٌ واحد، هو الفلسطيني المنتظر فوق أرض فلسطين.
ومع أبنائها وبناتها، تستطيع فلسطين أن تنتظر. لا يسَع الفلسطينيون التمسك بغير زمن الانتظار. الأرض اعتادت أسواط مغتصبيها. الشعب أتقن فن الصمت على الظلم وعلى المرارات. العدو الذي كان قتاله هدفاً قومياً استراح. القضية الفلسطينية التي كانت مركزية استراحت هي الأخرى من الوقوف في مركز الدائرة. النجدة التي كانت منتظرة من خلف حدود فلسطين ما زالت خارج الحدود، ومن كان من العرب على بعد كلمتين وميلين من ساحة المساهمة في الواجب القومي العربي، صار على بعد خطابات وآلاف الأميال. وعلى عادته، أو حسب سيرة حياته، عاد الفلسطيني وحيداً، هو الواقف في قلب الساعة ممسكاً بمواقيتها، وهو المنغرس في قلب الأرض ممسكاً بزرعها وهوائها ومائها والتراب.
الوحدة الفلسطينية، لها تاريخ، ولأن النبض الفلسطيني لا ينام، فإن وحدته ما زالت تحفر في التاريخ، وعندما يكتب ابن فلسطين سيرة حياته الفلسطينية، سيقول أنه كان وحده عند الهجرة اليهودية الأولى إلى بلاده، وأنه كان صوتاً مفرداً عندما قاتل أول مرّة ضد سارقي أرضه، وأنه ما زال "شخصاً مفرداً" يشار إليه بالبِنان، وهو يتابع الآن وغداً كتابة سيرة صراعه ضد الذين قالوا كلمتهم ضد حقيقة وجوده، وضد الذين يعيدون تعريف ماهية أرضه، وضد الذين يضعون سياسات خلاصتها دفع الفلسطيني إلى التيه، ليقوم مقام المستوطن الذي اجتاح سكونه واستقراره، بدعاوى التيه الأسطوري المزعوم.
الآن، لا يقوى عربي رسمي على الجهر بأنه كان بريئاً من "دم يوسف". الذئب كان بريئاً حقاً، والأخوة "جاؤوا بخبر كذب وبدم كذب. لقد سالت الدماء الفلسطينية، سياسياً ومادياً، جرّاء طعنات الأخوة العرب، وفاقت أحياناً الطعنات التي وجهّها الغازي الصهيوني، والمنتدب الإنكليزي، والرعاة السياسيون الموزعون على شرق وغرب، في العالمين الذين انقسما ذات يوم، بين رأسمالية واشتراكية.
لقد ألقي اللوم على الفلسطيني من قبل "أشقائه" العرب، كلما أراد هؤلاء قناعاً يستر خيباتهم، وقد قبِل الفلسطيني باللوم لأنه لا يستطيع إلا صفحاً وغفراناً لذوي القربى "اللذين يدرون ما يفعلون". لم يكن للفلسطيني، ولن يكون له، سياسة مناكفة، فهو الساعي إلى الصلح وترميم ذات البين، والمذكِّر الدائم، بأن الخلاف في مكانٍ آخر، والصراع في ساحات أخرى، أي في فلسطين دون سواها، إذا ما شاءت "العروبة" عزّة ومنعة ورفعة وانعتاقاً وتحرراً وتقدماً. في السياق ذاته، لم تكن للفلسطيني سياسة قطرية، ولن تكون، فهو بلا "قُطْر" ينسب إليه سياسته، وهو بلا جغرافيا محدودة ومحددة يغلق حدودها السيادية على فعل سيادته، لذلك من الأجدى القول إن الفلسطيني كان وطنياً وسيبقى، وكان وحدوياً وسيثابر على وحدويته، وكان مستدعياً للاستقواء بأشقائه، وسيظل صوته عالياً بنداء المساندة والاستقواء.
وما يميِّز الفلسطيني في سيرة سياساته، أنه لم يدعُ إلى النهوض بعبء الصراع العربي الصهيوني من موقع الإستكانة، بل كان وما زال في طليعة الذاهبين إلى المبادرة، وما كان "نبيذه" من كروم الغير، بل كان يقدم دائماً "دمه ليشربوه" نبيذاً على موائدهم، فكان أن بددوه في صحارى سياساتهم، وكان أن أنكروا على الكريم الفلسطيني أنه كريم، وأنكروا على الفدائي فداءه، ولأسباب القصور والعجز والفشل التاريخي، صار الأشقاء عبئاً على فلسطين وليس عوناً لها، وصَغُرت الجغرافيا، وما زالت تصغر، حسب تعريفات مغتصبيها ومستوطنيها، وبات الشعب الفلسطيني شعوب شتات، وشعوب مناطق، وأسبغ "العروبيون" الجدد على الهوية الفلسطينية نعمة الوحدة العربية فجعلوها سورية ولبنانية وأردنية وعراقية ومصرية... وحدة موزعة خارج وحدتها الوطنية، وجموع قاطنين أغراب، يحرسهم الرقيب والمخبر وأقفال السجون العربية وغير العربية.
وليس للفلسطيني إلا أن يدق مع غسان كنفاني على الخزّان، وليس له مع محمود درويش إلا أن يناضل ضد أبناء العابرين في كلمات عابرة، وليس له إلا أن يردد قول الرئيس الراحل ياسر عرفات، "على القدس رايحين... شهداء بالملايين".
هو الأمل، سلاح الفلسطيني الأمضى، وهو الوعد، الذي سيأتي معه الربيع العربي الحقيقي، فلا أزهار تتفتح إلا في رحاب القضية الفلسطينية، ولا تجتمع الحرية والكرامة والتقدم... واحتلال موقع عربي تحت الشمس العالمية، إلا في ميدان امتلاك القوة من أجل كل العرب، وكل فلسطين، هذه التي ستظل مقياساً للحرية والوحدة ولمعنى العروبة، إذا ما قيض لأبناء العروبة أن يظلوا أمناء على حرف "الضاد" الذي يجمعهم من المحيط العربي الذي ما زال هادراً، إلى الخليج الذي ما عاد ثائراً، منذ أن ضلَّت المياه عن سبيل أنهار فلسطين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024