الرقة: من يحتفل قريباً في ساحة النعيم؟

خليل عساف

السبت 2018/12/29
رغم إعلان الانسحاب الأميركي، يُشير كثير من أهل الرقة إلى أن سلوك القيادات الأمنية والعسكرية في مليشيات "قوات سوريا الديموقراطية" لم يتغير. كذلك لم يتوقف أو يضطرب سير الأعمال والإدارات التي استحدثتها "قسد" بعدما بسطت سيطرتها على المدينة في تشرين الأول/اكتوبر 2017.

أعمال ترميم ساحة الساعة مستمرة وكذلك ساحة النعيم. وسبق لتنظيم "الدولة الإسلامية" أن حوّلهما إلى ساحتي "نطع"، قُطعت فيهما رؤوس العشرات من جنود قوات النظام والمتعاملين معهم، وكذلك رؤوس معارضين للنظام. ساحة النعيم التي يعمل المجلس المحلي التابع لـ"قسد" على إعادة تأهليهما ببذخ ظاهر، رغم حجم الخراب والدمار وتلال الركام المحيطة بها، تبدو اليوم منذورة لايصال رسالة رمزية جديدة، بعدما غيّرت "قسد" مخططها الأصلي ووضعت لها تصميماً يعكس شعار "وحدات حماية الشعب" الكردية. "قسد" استعرضت آلياتها العسكرية وقواتها في ساحة النعيم، في محاكاة لاستعراضات "الدواعش". أحد الفروق الجوهرية أن أرتال "قسد" جالت الساحة تحت صورة ضخمة لأوجلان، غداة دخولها في العام 2017.

الأحداث في سوريا وما حولها، دخلت طوراً متسارعاً منذ إعلان الرئيس التركي عزم بلاده على تنفيذ عملية عسكرية شرقي الفرات لطرد "المليشيات الانفصالية" الكردية من مناطق سيطرتها المتاخمة للحدود السورية التركية. هذا التسارع تلقى دفعاً إضافياً مع إعلان ترامب سحب القوات الأميركية المتواجدة في المنطقة منذ العام 2015 بعد "انتهاء" المعركة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية". الحصيلة الجيوسياسية المتوقعة من هذين الإعلانين تبدو غائمة ومُحيرة في هذه اللحظة، بالنسبة للأهالي. أما القوى الفاعلة فقد بدأت فعلياً على الأرض لملاقاة نتائجها المُرتقبة؛ احتمال التمدد التركي عسكرياً وسياسياً من وراء الجيش الحر في مناطق من الجزيرة السورية، أو انسحاب أميركي والفراغ السياسي والأمني الذي قد يتركه فيما يبدو الشريك المحلي والمرحلي "قسد" عاجزاً عن سده.

بموازاة ذلك، تغيب عن المشهد كلياً إرادة وحاجات المجتمعات المحلية المعنية بما يجري على أرضها، والتي يُحتمل أن تتحول مرة أخرى لساحة، وأداة وضحية، لصراعات القوى النافذة. في ما يخص أفراد هذه المجتمعات يمكن رسم خريطة نفسية واجتماعية جديدة تعكس ما تعمل القوى الدولية والإقليمية النافذة على تنفيذه من خرائط؛ خرائط تستجيب لانحيازات هؤلاء الأفراد ورغباتهم، ولكن مخاوفهم وهواجسهم من "السيد الجديد"، بعدما تناوب على السيطرة عليها، خلال فترة قصيرة، كثير من السلطات؛ النظام فالجيش الحر، ثم "جبهة النصرة" فـ"الدولة الإسلامية"، واليوم "قسد".

يُلخص أحد شباب الحراك السلمي حال السكان في الرقة، بقوله: "لا أحد يفهم شيئاً مما يجري. لكن الغالبية العظمى من الناس تتوقع دخول النظام، وجزء كبير منهم يتمنى دخول النظام، جزء آخر يتمنى دخول تركيا، لكنه يرى ذلك أمراً غير مُحتمل لأن تركيا تريد شريطاً حدودياً لإبعاد الأكراد وليس لها مصلحة في الرقة. كثيرون من الناس يميل للمصالحة مع النظام لأنه جرب النزوح وآلامه وقلة منهم تفكر بالهرب". ويرى الشاب أن مصيبة المتعاملين مع المليشيات الكردية مضاعفة لأنهم يعرفون أن النظام سيستفرد بهم، مهما كانت طبيعة "التسوية" التي ستجريها "قسد" مع النظام. ومع ذلك، لو خُيروا بين النظام وتركيا فسيختارون النظام حتماً.

أحمد الغانم، من الرقة، طرح علينا السؤال: "ماذا علينا فعله إن جاء النظام؟"، فهو مطلوب للنظام، ولا يأمن لـ"المصالحة" كما يشعر أنه سيكون "في موقف تافه إن دخل النظام وارتفع علمه"، يتابع ساخراً: "خوفي أن نمسي ديموقراطي ونصبح نظام". وأضاف: "الأفضل أن أترك زوجتي وأطفالي هنا وأذهب إلى الريف الشمالي، إن دخل الجيش الحر والأتراك، عسى يكون الحال أفضل هناك". فالناس "خائفة من مجيء النظام، خاصة من هم في سن التجنيد أو الاحتياط، وكذلك بسبب التقارير الأمنية والخوف من الانتقام، وأيضاً من خلايا النظام النائمة".

عمر الحامد، العامل في منظمة دولية، يعكس رؤية بعض الرقاويين المقيمين على الطرف الآخر من الحدود. فبعد أن كان يخطط للانتقال من مركز عمله في مدينة غازي عينتاب التركية، إلى فرع المنظمة في الرقة، يبدو اليوم أكثر تريثاً وحذراً وأشد احباطاً. يرى عمر أن "الناس خائفة من النظام. معظمنا هنا محبط، وكل السيناريوهات في رؤوسنا، وليس لدينا أي معلومات تجعلنا نرجح سيناريو على آخر ونرتاح".

سيحمل سكان الرقة، الذين لا يعرفون اليوم من "السيد الجديد" الذي سيسير أرتال قواته للاحتفال في ساحة "النعيم" قريباً، الكثير من الحكايات عن تقلبات الأحوال والبشر وعن الخوف وتصريفه والنزوح وآلامه وتشتت الأسر. سيتناقلونها ويحكونها لبعضهم للبعض الآخر شفاهاً كما حالهم منذ مئات السنين، وربما يسخرون من أنفسهم ويتحسرون على حالهم وبقائهم ساحة لصراع الآخرين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024