"جود" تربك المعارضة والنظام!

عقيل حسين

الأربعاء 2021/03/31
مكاسب معنوية كبيرة حققتها هيئة التنسيق الوطني، وكذلك بقية القوى التي شاركت معها في الإعداد لمشروع الجبهة الوطنية الديمقراطية "جود"، بعد الضجة الكبيرة التي أحدثها المؤتمر التأسيسي الذي لم ينعقد.

لا يتعلق ذلك بمنع النظام انعقاد المؤتمر الذي كان مقرراً يومي السبت والأحد الماضيين، فهذا المنع لا يؤدي إلى تلميع "معارضة الداخل" كما يصرّ البعض، إذ إن هذه ليست المرة الأولى التي تفشل الهيئة بعقد مؤتمر لها خلال العقد المنصرم، بل يتعلق أولاً بمضمون الوثيقة السياسية للمشروع التي كانت جريئة، إلى حدٍ أربك النظام والمعارضة.

الإرباك كان حاضراً قبل الإعلان عن الوثيقة لدى المعارضة في الخارج، بما فيها القوى التي تلقت دعوة مسبقة لحضور المؤتمر بصفة ضيف، أو تلك التي لم تُدعَ.

توجيه الدعوات للضيوف واختيارهم لم يكن، كما هو واضح، بناء على مدى التوافق الفكري والسياسي، بل كان على أساس العلاقات ودرجة الوئام، فغابت قوى إعلان دمشق عن قائمة المدعوين، وهو أمر متوقع بسبب الخلافات العميقة مع حزب الاتحاد الاشتراكي، (الحزب القائد) لهيئة التنسق الوطني. كما غاب، للسبب نفسه تقريباً، المجلس الوطني والائتلاف عن قائمة الضيوف المقترحين، في الوقت الذي اعتذر فيه اليساري هيثم مناع عن عدم المشاركة، وكذلك فعل فاتح جاموس، الشيوعي القديم.

وإذ كان اعتذار مناع وجاموس متوقعاً بالنظر إلى الخلافات التي تحكم علاقاتهما مع الهيئة أيضاً، فإن اعتذار من لم يلبِّ الدعوة من قوى المعارضة الخارجية كان مبنياً على سبيين: الأول أن المؤتمر ينعقد في دمشق، والثاني: عدم معرفة تفاصيل المشروع ودوافع إطلاقه في هذا التوقيت.

والواقع فإن دمشق كمكان باتت اشكالية بالنسبة للمعارضة منذ عام 2011، عندما غادرت سوريا الأغلبية الساحقة من المعارضين التقليديين الذين خرجوا وهم متيقنين بعودة قريبة لتسلم قيادة البلد بعد سقوط النظام الذي لم يكن أحداً يشك في حتميته وقربه، لكن بمرور الوقت، ومع عدم تحقق هذا السقوط، ودفعاً لتهمة الخروج (خوفاً وطمعاً) لم يجد غالبية هؤلاء أفضل من التهجم على من قرر البقاء في الداخل والترويج للتشكيك بهم بين جمهور الثورة، الذي كان من السهل اقناعه أنه لا يمكن أن يتواجد معارض واحد في مناطق النظام إلا إذا كان مرتبطاً بهذا النظام أو صنيعة له!

تصنيف سيضيف سبب جديداً للتناحر بين قوى المعارضة التقليدية التي لم تكن بحاجة إلى ما يؤجّج خلافاتها المستعرة طيلة عقود، والتي ستنقلها كصراعات وانقسامات إلى أجسام الثورة ومؤسساتها التي أنشئت بهدف توحيد المعارضة!

تغييب هيئة التنسيق وغيرها من معارضي الداخل عن إعلام كان قد حرمهم من فرصة وصول أكبر لجمهور ما يزال أكثره يعتقد بأن مطالب هذه المعارضة تنحصر بالإصلاح، وسقفها هو سقف وطن الأسد، وأنها محمية من قبل روسيا ومرتبطة بالنظام..إلخ، وعليه يمكن القول إن مشروع الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) يمثل أهمّ خطوة في تاريخ هيئة التنسيق وبقية القوى المنخرطة فيه.

فقد حملت وثيقة المشروع السياسي للجبهة مضامين بسقف لا يقل عن سقف شعارات الثورة الجذرية، سواء لجهة المطالبة بإسقاط النظام وكذلك تحميله المسؤولية عما لحق بالبلاد طيلة خمسين عاماً، إلى جانب بنود أخرى كانت من القوة والوضوح بأن أربكت قوى المعارضة الأخرى التي لم تكن تتوقع مثل هذا الموقف، وعليه لم يبقَ سوى التشكيك بأسباب هذه الجرأة.

وتحت هذا الهدف، ركزّ البعض على الترويج لوجود توجه روسي لتطبيق القرار 2254، وأن هذا الموقف الجذري من النظام الذي عبرت عنه "جود"، لم يكن ليصدر في هذا التوقيت لولا تقديم الروس ضمانات للقوى التي أصدرته، بل وأكثر من ذلك، منحها وعوداً بأنها ستحل مكان النظام ذاته!

الترويج لروسية المشروع لم يثنِ آخرين عن محاولة ضرب الوثيقة السياسية من خلال الترويج لعدم توافق قوى الجبهة عليها، فأشيع أنها ليست معتمدة بشكل نهائي، وأن هناك خلافات حولها، وأن سبب هذه الخلافات هو عدم توقيع بعض المكونات عليها بسبب سقفها المرتفع خشية إغضاب النظام، وهو ما يتناقض وحقيقة أن هذه الوثيقة كان متوافقاً عليها ومُقرّة بالأصل منذ منتصف كانون الأول/ديسمبر 2020.

أيضاً حاول البعض ربط المشروع الوليد بأسماء إشكالية من معارضة الداخل المتماهية مع النظام أو التي أعلنت مبكراً رفضها للثورة، مثل محمود مرعي وميس كريدي وغيرهما، كما تم الغمز على نطاق واسع من وجود حزب التضامن المرخص ضمن الجبهة، والترويج بأن رئيسه محمد أبو القاسم قد أعلن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، رغم أن هيئة التنسيق كررت موقفها الواضح مؤخراً بمقاطعة هذه الانتخابات وعدم الاعتراف بشرعيتها.

وما بين الرغبة في أن ينعقد المؤتمر فتصدق الاتهامات بارتباط قوى "جود" بالنظام، وبين الخشية من نجاح هذه القوى بإنتاج منصة معارضة قوية ومتماسكة تحظى لاحقاً بدعم وتأييد دولي يسحب البساط من تحت أقدام بقية منصات ومؤسسات المعارضة، مرّ يوم الجمعة ثقيلاً على الجميع.

لكن القائمين على هذا المشروع كانوا واثقين من أن النظام لن يسمح لهم بعقد المؤتمر، وبالفعل فقد تلقى أحمد العسرواي أحد أعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر، منتصف الليل، رسالة من إدارة أمن الدولة تطلب عدم عقد الاجتماع قبل الحصول على إذن من لجنة الأحزاب، وهو أمر كانت قوى الجبهة قد حسمت موقفها منه، وكان قرارها واضحاً بعدم طلب أي إذن أو موافقة مسبقة من النظام.

في حديث ل"المدن" نُشر الثلاثاء، أكد الأمين العام لهيئة التنسيق الوطني حسن عبد العظيم، المكون الأكبر في مشروع "جود"، أن المؤتمر التأسيسي سيعقد في نيسان/أبريل، وهو موقف يظهر فيه إلى جانب التحدي، حجم الجرعة المعنوية التي كسبتها الهيئة والتي تريد، كما هو واضح، أن تستثمرها إلى أبعد حد ممكن، خاصة وأن عبد العظيم اعتبر أن ما جرى يؤكد قوة معارضة الداخل و"اتساع قاعدتها الشعبية"، وهي الجملة التي قد تتسبب بحرب أكثر شراسة على الهيئة و"جبهتها" من تلك التي تسببت بها الوثيقة السياسية للمشروع، حيث يعتبر الجميع، النظام والمعارضة، أن القاعدة الشعبية خط أحمر لا يمكن السماح بالمنافسة على إدعاء امتلاكها وتمثيلها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024