سقطت درعا.. وعاش عاطف نجيب

مازن عزي

السبت 2018/07/14
كأحجار الدومينو تساقطت قلاع المعارضة في سوريا منذ الهجوم الكيماوي على دوما في الغوطة الشرقية. الفصل الحوراني الأخير كان أشبه بـ"ديجا فو"، سبق ورأيت هذا. ومع ذلك، يُصرّ ما تبقى من بُنى المعارضة العسكرية والسياسية على العيش في زمن إنكاره الخاص.

نموذج الإخضاع "التجويع والتركيع" خضع لتعديلات مع الوقت، وطورت روسيا وإيران، وحليفهما المحلي، استراتيجية كسر جيوب المعارضة المحاصرة، والاستفراد بها واحداً بعد الآخر، معتمدين على "الحسم العسكري"، ومنفتحين على "مصالحات" متطابقة تختلف أحياناً بنود هامشية فيها. وفي حين كان الإخلاء في الزبداني وداريا إجبارياً للجميع، مسلحين ومدنيين، سُمح بإخراج المسلحين وعائلاتهم فقط من المعضمية. في حلب الشرقية طُبّق الإخلاء على الجميع، مع السماح بعدها بعودة الأهالي من غير المطلوبين أمنياً، إلى خرائب مدمرة تسيطر عليها مليشيات النظام.

في العام 2018 توّج النظام وحليفاه، الروسي والإيراني، عملياتهم العسكرية بانتصارات مدوية، انكسرت فيها المعارضة في الغوطة الشرقية، وخرج منها "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن" وبضع فصائل صغيرة، مرغمَين، إلى الشمال. نسبة كبيرة جداً من الأهالي خرجت إلى "مراكز إيواء" أقامها النظام، عبر ممرات "انسانية" افتتحها الروس للهاربين من سياسة الأرض المحروقة. استخدام الكيماوي كان ترجمة عملية لرفض النظام وحلفائه أية محاولة لاستعصاء المعارضة، فالثمن الباهظ ستدفعه الحواضن الشعبية، وسيمر تقريباً من دون عقاب دولي.

انهيار "جيش الإسلام" في دوما، اطلق سلسلة من الانكسارات المتوالية، جنوبي دمشق، وفي القلمون الشرقي، وريف حمص الشمالي. آليات النظام وحلفائه باتت شديدة الوضوح: تشديد الحصار، وحملة قصف وحشية للضغط على السكان بقبول مخارج يقترحها تيار "المصالحات" وتحويلها إلى تيار سائد. نبذ رافضي الاتفاق من المعارضة، وتحويلهم إلى قلة تسعى للخروج إلى الشمال السوري. الطابور الخامس كان ذروة تجليات السياسة الروسية، باختراق أشد معاقل المعارضة مقاومة. في لحظات أشبه بالسريالية، خرجت مظاهرات شعبية تدعو إلى دخول قوات النظام التي تقصفهم وتقتلهم، وإلى خروج المعارضة.

الطابور الخامس ظهر بقوة في كل جيوب المعارضة، واستُقبلت قوات النظام بحفاوة في أكثر من موقع. المظاهرات المؤيدة للنظام في كفربطنا وغيرها من بلدات الغوطة الشرقية، سرعان ما كشفت عن وجود تيار واسع على الأرض يؤيد دخول النظام. قوات الشيخ بسام ضفضع، قلبت المعادلة على جبهة عين ترما، وقادت طلائع قوات النظام. مؤخراً، في بصرى الشام، استقبلت "قوات شباب السنّة"، وفد "قاعدة حميميم العسكري" بالولائم والمناسف. الأهالي في غير محل، في درعا، استقبلوا ضباط النظام بالأهازيج وبالراحة والبسكوت. مقاطع مصورة، ظهرت فيها حشود تُقبِّل أيدي ضباط النظام.

"التفاوض" مع الروس والنظام، المشهد المكمّل لعدّة العمل العسكري، هو فن بحد ذاته. كلما أبدت المعارضة تمسكها بمطلب ما، عاد القصف والهجوم البري. "قوات النمر" مسنودة بدفق ناري جوي روسي، جاهزة للتقدم عندما يسمع الوفد الروسي كلمة "ملف المعتقلين"، أو النزع التدريجي للسلاح الثقيل. هنا، ليس في الممكن القول إنها سياسة العصا والجزرة. بل سياسة العصا والعصا. فالاشتراط الانعكاسي البافلوفي، هو سمة الرد الروسي بامتياز.

وفد النظام "المفاوض"، هو الحيرة بحد ذاتها؛ التلخيص العملي لـ"نحنا الدولة ولاك". كنانة حويجة، ومندوبو وزير المصالحة علي حيدر، وضباط برتب وأوسمة، يتبادلون دور الشرطي الجيد والسيء مع الوفد الروسي.

استراتيجية النظام وحلفائه في كسر جيوب المعارضة، كانت قد اتخذت سياقاً عاماً واضحاً وجلياً، منذ هزيمة حلب الشرقية. لا اتفاق "خفض تصعيد" ولا "مدن أربع" ولا "وقف إطلاق نار" أو "هدنة محلية" صمدت أمام الاجتياح العسكري، ومرادفه السياسي "المصالحة". الآلية ذاتها، بحذافيرها، استخدمت على مدار السنوات الثلاث الماضية. فكيف كانت استجابة المعارضة لها؟ ما هي الخطط البديلة التي عملت عليها كي تتجنب الهزيمة على الطريقة الروسية؟

عند إعلان النظام عن أي معركة جديدة، تبدأ المعارضة ملاحقة بعض الضفادع، وتشكل غرفة عمليات موحدة، وتعلن الثبات وتحصين الجبهات، وتتعاهد على الموت دون الاستسلام. فجأة، تخترق قوات النظام، مسنودة بقوة نارية روسية هائلة، ثغرة في دفاعات المعارضة، تتسع بسرعة لتشمل كامل المحرر، خلال أيام أو أسابيع، فتعقد "المصالحات"، وتنقل فصائل بندقيتها من كتف المعارضة الى كتف النظام، وتخرج الحافلات الخضراء حاملةً رافضي "التسوية". الفصل ذاته، تكرر خلال الشهور الستة الأخيرة، في غوطة دمشق، وجنوبي دمشق، وريف حمص الشمالي وحماة الجنوبي، والقلمون الشرقي، والآن نشاهد البث المباشر من درعا.

كالذاهبين إلى حتفهم وعيونهم مغمضة على اتساعها، سقطت مناطق المعارضة تباعاً، ولم تجد من يرثيها.

باستثناء محميتين أميركيتين في الشمال والشرق، ومحمية تركية في الشمال الغربي، وغموض حيال الشريط الحدودي مع إسرائيل، وبضع جيوب تسيطر عليها "الدولة الإسلامية" تتمدد وتصغر حسب الحاجة، فقد استعاد النظام ما تبقى. سوريا المفيدة ابتلعت سوريا "الضارة"، وأخضعت المدن أريافها. العملية العسكرية الأخيرة للنظام في درعا أطلق عليها اسم "وأد الفتنة". فهل صار الكلام عن هزيمة الثورة السورية ممكناً؟

لا شك أن لمناطق "المصالحات" خصوصية بـ"ضمانة" روسية، لكن النظام بُعث حياً وإن كان متهالكاً يخضع لهيمنة إيرانية-روسية. مؤسسات المعارضة المحلية، السياسية والعسكرية والخدمية، أُخضِعت وفقدت أهم مسوغات وجودها. وعادت "مؤسسات الدولة" للعمل في مناطق "المصالحات". مهلة الشهور الستة، قبل سحب الشباب للخدمة الإلزامية، انتهت في كثير من المناطق. قوات النظام أعادت تفعيل قواعدها العسكرية وثكناتها. الشرطة العسكرية الروسية تنتشر على معظم أراضي "المصالحات". تبييض معتقلات الإبادة الجماعية بدأ، والنظام بات يفرج عن اسماء القتلى تباعاً، ويوفّيهم في قيود النفوس.

مسخٌ بُعث حياً، مثل فرانكشتاين، وعادت الملاحقات الأمنية حتى في أشد بيئات الموالين موالاة. المناطق المُحررة صارت جزءاً من الماضي، والثورة أضحت ذكرى جميلة مؤلمة.

هُزمت الثورة السورية نتيجة تراكم أزماتها الداخلية، والتواطؤ الإقليمي-الدولي، ونُفخت الحياة في نظام الإستبداد مدعوماً بحُماتِه. اللاجئون السوريون في دول الجوار تقطعت بهم السبل، وباتت طريق عودتهم القسرية مفتوحة بالقوة، كما خرجوا منها بالقوة. المشهد شديد السواد، وبالغ القتامة. فهل من فسحة أمل؟

لا يبدو ذلك وارداً، فعاطف نجيب، الرئيس الأسبق لفرع "الأمن العسكري" في درعا وابن عمة الرئيس بشار الأسد، والسبب المباشر لاندلاع الثورة السورية، ما زال طليقاً. ورغم نقله من درعا، لم يُعرف إن وجّهت له عقوبة مسلكية، في حين أن محاولة اغتيال الشهيد حمزة الخطيب ما زالت متواصلة. مرتكبو جرائم الإبادة الجماعية يحتفلون بانتصارهم على الشعب السوري. والوعود الروسية الغامضة بصياغة دستور جديد، والانفتاح على إدارة لامركزية، أشبه بذر الرماد في العيون. الهزيمة كليّة وفاجعة، ووقت المراجعة الذاتية قد حان.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024