النظام السوري وقسد..الفراق المحتوم

العقيد عبد الجبار العكيدي

الثلاثاء 2021/02/02
ذكرتُ في مقال سابق بعنوان "الطبل في عين عيسى والعرس في مكان آخر" أن قوات سوريا الديمقراطية هددت بطرد النظام من المربعين الأمنيين في كل من الحسكة والقامشلي، في حال إجبارها على الخروج من عين عيسى، وهذا ما يحصل الآن بعد أن فشلت محاولات التوصل إلى تفاهمات بين النظام وقسد برعاية روسية، ورفضت قسد تسليم المدينة للنظام، مكتفية بالموافقة على أن يكون له مربع أمنى على غرار الحسكة والقامشلي.
طرح النظام هو أن تكون المدينة تحت سيطرته مع وجود مقرات لقسد، كما هو الحال في حي الشيخ مقصود في حلب، لكن قسد، ومن خلفها قيادة قنديل، تعتبر أن تواجد قوات النظام في هاتين المدينتين، أقوى أوراق التفاوض والضغط عليه، ليس في مصلحتها.
ونتيجة تخوف قسد من تفاهمات روسية-تركية بإخراجها من المدينة الاستراتيجية الواقعة على الطريق الدولي "إم-4" وتسليمها للنظام، قامت بتطويق المقرات الأمنية في هاتين المدينتين، الحسكة والقامشلي، وفرضت حصاراً عليهما، في فصل جديد من فصول العلاقات المضطربة بين نظام الأسد والميليشيات الانفصالية.
الصراع الناعم بين الطرفين بدأ يتطور باتجاه مواقف أكثر خشونة، في مؤشر واضح على أن هناك معطيات دولية جديدة جعلت قسد تكسر عصا الطاعة والأخذ نحو التصعيد شيئاً فشيئاً، والضغط على النظام وقلب الطاولة وخلط الأوراق من خلال هذه العملية، رافضة الوساطة الروسية التي طالبت الطرفين بإنهاء مظاهر التوتر، وإطلاق سراح المعتقلين من الجانبين.
قبل تحليل أسباب الأزمة وأبعادها والسيناريوهات المتوقعة، لا بد أولاً من قراءة خارطة الصراع وتوزع مناطق النفوذ في مدينتي الحسكة والقامشلي.
محافظة الحسكة ذات الغالبية العربية مقسمة إلى أربع مناطق نفوذ:
الأولى: مركز المدينة ويقع تحت سيطرة النظام ويحوي (قصر المحافظة -القصر العدلي -المقرات الأمنية واغلب دوائر الدولة).
الثانية: حي المساكن القريب من مركز المدينة، ويُعتبر منطقة تماس ومتداخل بين سيطرة ما يسمى ب"مجموعة المقنعين"، وهم عبارة عن مرتزقة وشبيحة تابعين لميليشيا الدفاع الوطني الموالية للنظام، بالإضافة لتواجد قوات الأسايش (أمن قسد).
الثالثة: جبل كوكب الواقع شمال شرق المدينة، حيث يتواجد الفوج 153 قوات خاصة (جيش النظام).
الرابعة: باقي أحياء ومداخل المدينة، وتقع جميعها تحت سيطرة قوات حماية الشعب الكردية والأسايش.
أما مدينة القامشلي فمناطق سيطرة قوات النظام وحلفائه تنحصر في مركز المدينة، حيث المجمع الحكومي الذي يضم المحاكم ومديرية المنطقة والسجل المدني وباقي الدوائر الخدمية، وإلى الشمال منه، بالقرب من الحدود مع تركيا، يوجد المربع الأمني الذي يضم فروع أمن الدولة والأمن العسكري والأمن السياسي والمصرف التجاري.
إلى الجنوب الغربي يوجد المطار المدني الذي حوله الروس والنظام إلى قاعدة عسكرية يوجد في داخلها فرع المخابرات الجوية، وإلى الشرق منه بحوالي 200 متر توجد قاعدة روسية في منطقة الفيلات.
ولجهة الشرق من المطار، وعلى بعد 2 كم في قرية طرطب، يتواجد الفوج 154 قوات خاصة أيضاً.
أما في الحي الجنوبي من المدينة أو ما يسمى "حي طي" (نسبة الى قبيلة طي العربية) فالسيطرة لميليشيا الدفاع الوطني التابعة للنظام.
خطوط التماس هذه التي رُسمت منذ العام 2012 عندما انسحب النظام من أغلب تلك المناطق لصالح حليفه حزب الاتحاد الديمقراطي، تاركاً له المقرات والآليات والسلاح والعتاد لوضعه في مواجه الثورة والثوار من عرب وكرد، قلصت سيطرة قوات النظام في هذه المنطقة بحيث لا تتجاوز 10 في المئة.
ولفهم ما يجري اليوم يجب استعراض السيناريوهات المتوقعة لما يمكن أن يحصل في هذه المنطقة الهامة بالنسبة للجميع، إذ لا يمكن الجزم بما يريده كل طرف في هذه المرحلة، لكن يمكن تحديد تطلعاتهما بما يلي:
القطيعة الكاملة: السيناريو المحتمل الأول أن المتغيرات التي طرأت على مواقف قسد تعبر عن تغير حقيقي استراتيجي متعلق بالإدارة الأميركية الجديدة ووصول بريت ماكغورك الى مجلس الأمن القومي، والذي يُعتبر من أشد المتحمسين لدعم وتسليح القوى الكردية، ما شكّل لديها شعوراً متنامياً بالقوة بحيث أصبحت ترى في العلاقة مع النظام عبئاً عليها، وبالتالي يجب إخراجه نهائياً من المنطقة والانتقال إلى علاقة صفرية تنهي كل أشكال التعاون بينهما.
تحسين شروط: الثاني أن العملية لا تعدو كونها تكتيك، من أجل ممارسة ضغوط على النظام لدفعه لدعم القوات الكردية في عين عيسى، وتخفيف الضغوط على عناصرها في حي الشيخ مقصود في حلب ومخيم الشهباء في مدينة تل رفعت، وهذا ما تراه الأطراف الكردية المناوئة لقسد والنظام، التي تعتبر أن ما يجري عبارة عن بازار وصفقات متبادلة لا أكثر، باستخدام سياسة شد الأيادي وليس كسر العظم، للحصول على بعض الامتيازات باستخدام المدنيين كورقة ضغط ورهائن في صراعهما على النفوذ والسيطرة، وهذه المعارك الجانبية عبارة عن مسرحية لتحسين شروط التفاوض، وقسد المعروفة ببراغماتيتها لا يمكن أن تقطع شعرة معاوية مع النظام وتغلق خطوطها المفتوحة معه.
القطيعة التدريجية: السيناريو الثالث يعتمد على أن مسار الأحداث يضعنا أمام تحول حقيقي في العلاقة بين قسد والنظام، تحول سيتبعه تحولات أخرى قد تنهي التعامل بين الطرفين ووقف كل أشكال التعاون، وحصول قطيعة تامة بين الطرفين، وهذا مرتبط بالضغط الأميركي لإبعاد قسد عن خط  قنديل المرتبط بإيران والنظام، والدفع بعجلة الحوار الكردي-الكردي، لتشكيل جسم موحد ينخرط مع أجسام المعارضة السورية في عملية التسوية السياسية الشاملة.
الانسحاب: الرابع يقوم على أن النظام الذي رفض مساندة قسد في عين عيسى، ومن قبل في عفرين وتل أبيض ورأس العين، في عمليتي غصن الزيتون ونبع السلام، وتركها تواجه مصيرها وقدرها رغم التعاون الكامل بينهما سابقاً في ضرب فصائل الجيش الحر وحواضن الثورة في عموم سوريا، لن يتخلى عن المنطقة بسهولة، رغم أن الغلبة العسكرية ستكون لقسد إذا ما وقعت المواجهة، فالمربعات الأمنية ليس لها أهمية بالمعنى العسكري، وهي عبارة عن جزر محاطة بالقوى الكردية، إلا إذا تدخل الروس ووقف الأميركيون على الحياد وهذا لن يحصل في الغالب.
ضربة استباقية: الخامس أن قادة حزب العمال الكردستاني الذين تدربوا في معسكرات حافظ الأسد وتخرجوا من مدرسته اللينينية الشوفينية، هم على دراية تامة بعقلية النظام القائمة على الغدر بالشركاء والانقضاض عليهم متى سنحت له الفرصة، وعدم قبوله الشراكة مع أحد.
ولعلمهم أن وجهته القادمة ستكون القامشلي والحسكة، لرد الاعتبار والانتقام منهم واستعادة مناطق تضم جلّ ثروات سورية المائية والنفطية والزراعية للتخفيف من أزمته الاقتصادية الخانقة، وذلك بعد أن ضمنت له اتفاقيات سوتشي وتفاهمات أستانة تثبيت وقف إطلاق النار ورسم خطوط التماس وجبهات باردة مع فصائل الثوار في إدلب وأرياف حلب وحماة والساحل، لذلك رأت قيادة قسد أن هذه العملية الاستباقية ضرورية، على مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع.
تدرك قسد خطورة ما تقوم به روسيا عليها، من خلال تكثيف اجتماعاتها مع زعماء العشائر العربية في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، لتحريضهم ضد تواجد عناصر وقيادات الوحدات الكردية وحضّ أبنائهم على حمل السلاح والانخراط في العمل العسكري للدفاع عن وجودهم في وجه التمدد الكردي، عازفة على الوتر العشائري والقومي في سباق مع الزمن خشية ارتماء القوات الكردية في الحضن الأميركي بشكل كامل، ولذلك باتت ترى أنه من الضروري إخراج قوات دمشق وموسكو بشكل كامل، وإن كان تدريجياً وبوسائل ضغط غير مباشر، من شمال شرق سوريا، لكن هذا يتوقف على تطورات الموقف الأميركي بالتأكيد.
احتمالات وإن تعددت لمآلات الصراع بين حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام في الحسكة والقامشلي، لكنها جميعاً تصب في نقطة تجمع واحدة لا يمكن للطرفين تجنبها في النهاية، وهي الحسم وفض الشراكة، سواء بالقوة أو بالتوافق.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024