الحراك في لبنان.. كجزء من ظاهرة عالمية

ريم جبر

الأحد 2019/11/03

قد يسمع المرء في احتجاجات بيروت معتصمين في الساحات يدور كلامهم على تعاظم وتيرة الاحتجاجات ورقعتها في العالم، وليس في لبنان والعراق والجزائر والسودان في الأمس القريب فحسب. وهذا ليس من بنات الخيال. فوتيرة الاحتجاجات تزايدت وبلغت ذروة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية والنظام العالمي الذي انبثق عنها. ولاحظ كل من ماكس فيشر وأماندا توب في نيويورك تايمز غياب قاسم مشترك بين موجة الاحتجاجات في العالم من التجمعات المنددة بالفساد في لبنان والعراق مروراً بتظاهرات الانفصاليين في اسبانيا والمسيرات المؤيدة للديموقراطية في هونغ كونغ والتظاهرات الشاجبة لغياب المساواة الاجتماعية والاقتصادية في التشيلي وصولاً الى تلك الطاعنة بنتائج الانتخابات في بوليفيا.


وغياب القاسم المشترك بين الانتفاضات "الفردية"، والمقصود الخاصة بكل بلد، وراءه تغير وجه العالم تغيراً يرجح كفة لجوء الناس الى الشوارع في سعيهم الى تغيير سياسي. ولكن المشترك بين هذه الاحتجاجات، على اختلاف أهدافها وأشكالها، هو مصيرها المرجح، أي الفشل والاخفاق، على  خلاف ما كانت عليه الامور قبل عقدين من الزمن. ففي ذلك الزمن كان 70 في المئة من الاحتجاجات الشعبية يبلغ مأربه. 


وفي منتصف العقد الذي استهل في عام 2000، بدأت نسبة نجاح الاحتجاجات الشعبية تتراجع، على ما لاحظت إيريكا شينويث في دراسة عنوانها "الترنح" كانت أعدتها عن أفول فرص نجاح الاحتجاجات وأفول الديموقراطية. وفي السعي الى فهم نازع الاحتجاجات الشعبية الى الاخفاق، تقف على 3 تغيرات كبيرة:


- توقف أو شلل عجلة الديموقراطية في العالم، وانحسار مدها. فللمرة الاولى منذ الحرب العالمية الثانية، يفوق عدد الدول التي تتجه الى الاستبداد عدد تلك التي تنحو الى الديموقراطية، استناداً الى دراسة أعدها كل من آنا لورهمان وستيفان ليندبارغ من جامعة غوتنبورغ في السويد. والاسباب وراء هذا المنحى معقدة ولا تزال موضع نقاش وخلاف. فالنوازع القومية تتعاظم مع ميل الناخبين الى انتخاب رجال أشداء... والدعوات الدولية الى ارساء الديموقراطية تراخت. والفساد المعولم ساهم في ترسيخ أنظمة سياسية "مهشمة"  أي غير ناجعة. 


ولكن طلب الناس أو رغبتهم في الديموقراطية يتعاظم مع بروز الطبقات الوسطى. ويبدو أن سداً أسدل أمام الديمقراطية، ومطالب الناس المتعاظمة تبرز على هيئة احتجاجات واسعة وعامة. ولم يعد الديكتاتوريون يبرزون بين ليلة وضحها، واليوم يبرزون تدريجاً في عملية قد تؤدي الى دورات طويلة الامد من الاحتجاجات. ومعظم الحكومات عالقة بين منزلتي الديموقراطية والاستبداد، على ما هي الحال في لبنان والعراق حيث تنظم انتخاب ولكن الأحزاب لا تنزل على مطالب الناس.


وأكثر الدول عرضة للاحتجاجات والثورات هي تلك الواقعة بين المنزلتين حيث يملك المواطنون حرية التعبير ولكنهم يطالبون بالتغيير من دون أن ينالوه أو يحرزوه. وهذه "الديموقراطيات المجوفة"، وهي قد تخمد فتيل الاحتجاجات من دون أن ترسي اصلاحات فعلية أو تقوض قبضة احتكار الحياة السياسية، قد تدور فيها نوبات الغضب العام والخيبة في حلقة مفرغة.

الانترنت جسر الى الحشد والقمع في آن:
- تساهم مواقع التواصل الاجتماعية في تيسير اندلاع الاحتجاجات وتضخمها من جهة، ولكنها من جهة أخرى تحمل بذور فشلها والاخفاق. فهذه الوسائل عززت القدرة على القمع أكثر مما عززت سُبل الحشد والتغيير. فوسائل التواصل الاجتماعي تيسر حشد المواطنين. و200 ألف متظاهر اليوم ليست صنو العدد نفسه قبل 3 عقود. فقبل عصر مواقع التواصل الاجتماعي، كان الناشطون في الحركة المدنية الطلابية في أميركا يمضون سنوات في حشد التأييد لهم في المجتمع وفي ارساء أسس عمل تجمعاتهم. وكانوا يلتقون يومياً للبحث والإعداد والوقوف على الخلافات. وهذه المساعي عززت هذه الحركات وجعلتها راسخة وضاربة الجذور في المجتمع الفعلي على خلاف ما هي الحال في العالم الرقمي. ونجم عن سنوات الإعداد بنية تنظيم داخلي متماسكة يسعها ترجمة الانتصارات في الشارع إلى غايات سياسية. ولكن وسائل التواصل الاجتماعي هي الجسر الى تجاوز سنوات الإعداد والتنظيم، ولذا، من السريع حشد الجموع في الشارع غير أن الحشد هذا يفتقر الى بنية تخوله نيل المطالب. وينجم عن الحال هذه مجتمعات عرضة لموجات احتجاج دورية وعجز عن بلوغ التغيير، فتتناسل الاحتجاجات لا إلى نهاية.


- تعلمت الحكومات كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لبث البروباغندا واستمالة المتعاطفين معها أو على أقل تقدير نشر البلبلة والغموض. ولم تعد الحكومات تحتاج الى قمع المعارضة كلها، وجلّ ما تحتجه هو الطعن بدواعي المعارضين وبث الشقاق بينهم، وتوزيع الاموال على مناصريها.


وغالباً ما نحسب أن التظاهرات الحاشدة هي ممثلة "الشعب"، على ما يصفها المشاركون فيها. وهذا الوصف يسبغ عليها مشروعية ديموقراطية. ولكن في معظم الاحوال، تقود طبقة من الطبقات الاجتماعية دون غيرها الاحتجاجات، على رغم مشاركة محتجين من شرائح اجتماعية مختلفة فيها. ولكن مطالب هذه الاحتجاجات هي مطالب تخدم طبقة دون غيرها، أو الطبقة المتضررة من تغيرات. ففي هونغ كونغ الاحتجاجات ترمي الى حماية الديموقراطية وحكم القانون من قبضة بكين. ولكن محرك الاحتجاجات الاساسي هو الطبقة الوسطى من الطلاب والمهنيين الذين يرون أن مكانتهم في المجتمع تخلخلت جراء تغير بنية اقتصاد هونغ كونغ على وقع ارتفاع قيمة الايجارات كثيراً وتسارع وتيرة هجرة الصينيين من البر الأم إليها.


ولا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي أدت دوراً محورياً في سريان عدوى الاحتجاجات واتساع رقعتها، ولكنها في عالمنا العربي مختلفة عن نظيرها في العالم الغربي وحتى الأسيوي، هونغ كونغ. ففي لبنان والعراق وسوريا وليبيا والسودان، دور اللاعبين الاقليمي وازن. وقد لا يقيض للمحتجين المضي قدماً وإحراز تغيير ما لم ينكفئ اللاعبون الاقليميون بعض الشيء عن ترجيح كفة وكلائهم أو حلفائهم ترجيحاً مُحكماً على ما حصل في السودان. وما مطالبة المتظاهرين اللبنانيين الخجولة بوقف التدخل السعودي والايراني ومطالبة العراقيين الصريحة بخروج إيران إلا دليلاً على الجانب الإقليمي من الشلل الحكومي والتسلط والفساد المستشري.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024