سر الرقة القذر:كيف جرى تهريب الدواعش؟

المدن - عرب وعالم

الثلاثاء 2017/11/14

كشفت شبكة "BBC" تفاصيل عن صفقة سرية سمحت بهروب مئات من مقاتلي "الدولة الإسلامية" وعائلاتهم من الرقة، تحت أنظار "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، والقوات الكردية التي تسيطر على المدينة. وضمّت القافلة بعض أسوأ مقاتلي "داعش" سمعة، رغم إعادة التأكد،و العشرات من المقاتلين الأجانب. بعض هؤلاء انتشروا عبر سوريا، وبعضهم وصل إلى تركيا.

"المدن" كانت قد تفردت بنشر تفاصيل المفاوضات التي جرت، قبل تسليم مدينة الرقة. وقال مراسل "المدن" عبدالقادر ليلا، حينها، إن المفاوضات استمرت لأيام، وسط تصعيد من الطرفين، حتى وصلت إلى نتيجتها الختامية بالسماح لمقاتلي "داعش" المتبقين، وعائلاتهم بالهرب من الرقة.


وكتبت "BBC" إن سائق الشاحنة أبو فواز، ظن أنها ستكون مجرد مهمة عمل أخرى. ويقود أبو فواز شاحنة بـ18 إطاراً، عبر بعض أخطر المناطق شمالي سوريا. جسور مدمرة، رمل الصحاري، وحتى قوات النظام ومقاتلو "الدولة الإسلامية" لا يعترضون درب سيارات توصيل البضائع.

هذه المرة، كانت حمولة أبو فواز، من البشر. "قوات سوريا الديموقراطية" أرادت منه قيادة قافلة ستأخذ مئات العائلات النازحة من القتال من بلدة الطبقة على نهر الفرات إلى مخيم في الشمال.

المهمة قد تستغرق 6 ساعات، كحد أقصى، على الأقل هكذا قالوا له.

ولكن عندما جمّع أبو فواز وزملاؤه، قافلتهم، في 12 تشرين الأول، أدركوا أنهم تعرضوا للخديعة.

فالرحلة ستتطلب قيادة صعبة لثلاثة أيام، والحمولة قاتلة: المئات من مقاتلي "داعش" وعائلاتهم، وأطنان من الأسلحة والذخيرة.

ووُعِدَ أبو فواز، والسائقين الآخرين، بآلاف الدولارات على هذه المهمة، بشرط أن تبقى سرية.

وعُقدت صفقة السماح بهروب مقاتلي "داعش" من الرقة، عبر مسؤولين محليين. وجاءت بعد 4 شهور من القتال دمرت المدينة وأخلتها تقريباً من السكان. الصفقة ستحفظ الأرواح وتوقف القتال. أرواح العرب والأكراد ومقاتلين آخرين يعارضون "داعش"، سيتم الحفاظ عليها.

ولكنها أيضاً ستمكّن المئات من مقاتلي "داعش" من الهرب من المدينة. في ذلك الوقت، لا "التحالف الدولي" بقيادة أميركا وبريطانيا، ولا "قسد" المدعومة منه، أرادوا الاعتراف بدورهم في الصفقة.

هل الصفقة، التي اعتبرت سرّ الرقة القذر، أطلقت خطراً إلى العالم الخارجي، بعدما مكّنت مقاتلي المليشيات من الانتشار بعيداً وعميقاً في سوريا، وما خلفها؟

لكن "BBC" تكلمت مع عشرات الأشخاص ممن كانوا في القافلة، أو ممن راقبوها، ومع رجال فاوضوا من أجل اتمام الصفقة.

في ساحة تشحيم في الطبقة، تحت أشجار النخيل، 3 صبيان مشغولين في إعادة تركيب محرك الشاحنة. زيت المحرك يغطّيهم، ويجعل من شعرهم الأسود المزيّت واقفاً.

بالقرب منهم مجموعة من السائقين. أبو فواز في المنتصف، يبدو غريباً بجاكيته الأحمر الفاقع. لون يتوافق مع لون شاحنته الحبيبة ذات الإطارات الـ18. ويبدو بوضوح أنه قائد القافلة، يُسرع بعرض الشاي والسجائر. في البداية قال إنه لا يريد الحديث، ولكنه سرعان ما غيّر تفكيره.

أبو فواز وبقية السائقين غاضبون. فلقد مرّ أسبوع منذ خاطروا بحياتهم في رحلة خرّبت المحركات وحطمت المحاور، ولكن أحداً لم يُحاسبهم بعد. لقد كانت رحلة إلى الجحيم، وعودة منها، كما قال.

لقد كنا مرعوبين منذ لحظة دخولنا الرقة، قال أبو فواز. "لقد كان مفترضاً بنا الذهاب إلى هناك برفقة قسد، ولكننا ذهبنا لوحدنا. وعندما دخلنا، شاهدنا مقاتلي داعش بأسلحتهم وأحزمتهم الناسفة. لقد فخخوا شاحناتنا. إذا ما حدث شيء خاطئ في الصفقة، سيفجرون كامل القافلة. حتى أولادهم ونساؤهم ارتدوا أحزمة ناسفة".

القوات الكردية كانت قد أخلت الرقة من وسائل الإعلام. هروب "داعش" من الرقة لن يُتلفز.

في العلن، "قسد" قالت إن بضع عشرات من المقاتلين سيكون بإمكانهم المغادرة، جميعهم من السكان المحليين.

أحد سائقي الشاحنات قال إن ذلك ليس صحيحاً.

"لقد أخذنا حوالي 4000 شخص منهم نساء وأطفال، وترافقت عرباتنا وعرباتهم. عندما دخلنا الرقة ظننا أننا سنأخذ 200 شخص. في شاحنتي لوحدها، نقلت 112 شخصاً".

سائق أخر قال إن طول القافلة بلغ 6 إلى 7 كيلومترات. وضمت على الأغلب 50 شاحنة، و13 حافلة، وأكثر من 100 عربة لمجموعات الدولة الإسلامية. بعض مقاتلي "داعش" بوجوههم المُلثّمة ركبوا أعلى بعض عرباتهم.

الصور التي أخذت بسرية ومُررّت لنا، أظهرت قاطرات شاحنات مكتظة بالرجال المسلحين. وعلى الرغم من الترتيبات ليأخذ مقاتلو "داعش" أسلحتهم الفردية فقط، فقد أخذوا كل شيء يقدرون على حمله. 10 شاحنات حُمّلت بالأسلحة والذخيرة.

السائقون أشاروا إلى شاحنة بيضاء يُعملُ عليها في زاوية الساحة. "لقد كُسر محورها بسبب وزن الذخيرة"، قال أبو فوزي.

لم يكن هذا إخلاءً تماماً، لقد كان خروجاً لما يسمى "الدولة الإسلامية".

"قسد" لم ترد التقهقر من الرقة أن يظهر كهروب إلى النصر. لم يُسمح برفع أعلام أو رايات على القافلة عندما غادرت المدينة، كما نص الاتفاق.

لقد كان مفهوماً أيضاً أن لا أجانب مسموحاً لهم الخروج أحياءً من الرقة.

في أيار/مايو، وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس وصف القتال ضد "داعش" بحرف "الإفناء". "نيتنا هي ألا يتمكن المقاتلون الأجانب من النجاة والعودة إلى ديارهم في شمال أفريقيا وأوروبا وأميركا وآسيا. لن نسمح لهم بفعل ذلك"، قال ذلك على التلفزيون الأميركي.

ولكن المقاتلين الأجانب، ممن ليسوا من سوريا والعراق، كانوا قادرين على الانضمام إلى القافلة، بحسب السائقين.

"لقد كان هناك عدد كبير من الأجانب. من فرنسا وتركيا وأذربيجان وباكستان واليمن والسعودية والصين وتونس ومصر..".

بعض السائقين قدموا أسماء من قوميات مختلفة.

على ضوء تحقيق "BBC"، اعترف "التحالف" بالدور الذي لعبه في الصفقة. بحدود 350 مقاتلاً من "داعش" سُمحَ لهم بمغادرة الرقة، مع 3500 فرد من عائلاتهم.

"لم نرد من أحد أن يغادر"، بحسب الكولونيل رايان ديلون، الناطق باسم "عملية الحلّ المتأصل"، التحالف الدولي ضد "داعش".

"ولكن هذا يذهب إلى قلب استراتيجيتنا، عبر ومن خلال القادة المحليين على الأرض. ذلك يعود إلى السوريين، فهم من يقاتل ويموت، ولهم اتخاذ القرارات بالنسبة لعملياتهم"، كما قال.

وبينما حضر ضباط أجانب في المفاوضات، فإنهم لم يأخذوا "دوراً فعالاً" في النقاش. وأشار الكولونيل ديلون، إلى أن 4 مقاتلين أجانب فقط قد غادروا، وهم الآن في الحجز لدى "قسد".

عندما تغادر القافلة المدينة، ستعبر من خلال حقول القمح والقطن المروية بشكل جيد شمالي الرقة. القافلة غادرت الطريق الرئيسي وخرجت عبر طرق في الصحراء. الطرق كانت صعبة للشاحنات، لكنها أيضاً كانت أصعب للسائقين.

صديق لأبو فوزي، شمّر عن أكمامه، وتحتها كانت حروق على جلده، وقال: "انظر ماذا فعلوا هنا".

بحسب أبو فوزي، هناك 3 أو 4 أجانب مع كل سائق. كانوا يضربون ويهينون السائقين بأسماء مثل "كافر" أو "خنزير".

قد يُساعدون المقاتلين على الهرب، ولكن السائقين العرب كانوا قد تعرضوا لسوء المعاملة على كامل الطريق، وللتهديد.

"لقد قالوا: دعنا نعرف متى ستعيد بناء الرقة، حسنا سنعود ثانية"، قال أبو فوزي. "لقد كانوا لا يهابون، ولم يكترثوا. لقد اتهمونا بطردهم من الرقة".

إمرأة مسلحة هددته ببندقية كلاشينكوف.

صاحب المتجر محمد، لم يتعرض للتخويف كثيراً.

لقد كانت الرابعة بعد الظهر عندما قادت قافلة "قسد" عبر بلدته شانين، وأخبرت السكان بضرورة إلتزام بيوتهم.

"لقد كنا هنا عندما توقفت آلية لقسد وقالت إنه اتفاق هدنة بينهم وبين داعش"، قال محمد: "أرادوا منا إخلاء المنطقة".

ومحمد ليس معجباً بـ"داعش"، ولكن ليس بمقداره تفويت فرصة العمل هذه، حتى ولو كان 4000 زبون عجيب يقودون عبر بلدته وهم مسلحون حتى أسنانهم.

جسر صغير في البلدة تسبب بخلق ما يشبه عنق الزجاجة، ما أخرج مقاتلي "داعش" من عرباتهم للتسوق. بعد شهور من القتال، واتخاذهم من المخابئ غطاء لهم، فقد كانوا شاحبين وجوعى. لقد زحفوا إلى متجره، وأخلوه البضائع من الرفوف.

"مقاتل تونسي بعين واحدة، قال لي بأن أخشى الله، بصوت هادئ جداً، سألني لما أنا حليق الذقن. وقال إنهم سيعودون لاحقاً ويفرضوا الشريعة مرة أخرى. أخبرته أن لا مشكلة لدينا مع قوانين الشريعة. فجميعنا مسلمون".

لقد اشتروا كل شيء، من النوديلز والبسكويت والسناكس.

لقد تركوا أسلحتهم خارج المتجر. المشكلة الوحيدة التي واجهناها عندما رصد 3 مقاتلين بعض السجائر، المهربة بالنسبة لهم، ومزقوا العُلب.

"لم يستولوا على أي شيء" قال محمد.

فقط 3 منهم غضبوا. بقية المقاتلين انتقدوهم.

قال محمد إن "الدواعش" دفعوا لقاء ما اخذوه.

"لقد شفطوا المكان. لقد كنت مرتبكاً بسبب أعدادهم. العديد منهم سألوني عن الأسعار، ولكنني لم أتمكن من الإجابة لأنني كنت مشغولاً بخدمة آخرين. لذلك تركوا نقوداً على الطاولة من دون أن أسألهم ذلك".

وعلى الرغم من سوء المعاملة التي تلقوها، فقد وافق سائقو الشاحنات بأنه عندما وصلنا إلى النقود، دفع "الدواعش" فواتيرهم.

قال أبو فوزي: "الدواعش قد يكونون مختلين نفسياً وانتحارييين، لكنهم دائماً مستقيمون بقصص النقود".

في قرية مهند الصغيرة، هرب الناس مع اقتراب القافلة، خائفون على منازلهم، وعلى حياتهم.

ولكن فجأة، استدارت العربات إلى اليمين، وغادرت الطريق الرئيسي إلى طريق صحراوي.

"عربتا هامفي تقدمتا القافلة"، قال مهند: لقد كانوا ينظمون القافلة، ولم يسمحوا لأحد بتجاوزهم".

وعندما اختفت القافلة في الصحراء، لم يشعر مهند بالراحة. فكل من تكلمنا معه قال إن "الدواعش هددوا بالعودة، وأشار المقاتلون بأصابعهم إلى نحورهم عندما عبروا بجانبنا".

"لقد عشنا في رعب طيلة السنوات الماضية" قال مهند.

"ستأخذ منا مدة قبل أن نخلص أنفسنا من الخوف النفسي. نشعر أنهم سيعودون قريباً من أجلنا، أو سيرسلون خلايا نائمة. لسنا متأكدين أنهم غادروا إلى الأبد".

على طول الطريق، الكثير من الناس الذين تكلمنا معهم، قالوا إنهم سمعوا طائرات التحالف، وأحياناً درونز، تتبع القافلة.

من مقصورة قيادته، أبو فوزي راقب طائرات التحالف تطير منخفضة فوق رؤوسهم، ترمي قنابل مضيئة، لتضيء درب القافلة.

التحالف أكد الآن أنه بينما لم يكن له حضور شخصي على الأرض، فقد راقب القافلة من الجو.

خلف آخر حاجز لـ"قسد"، داخل أراضي "داعش"، في بلدة بين مركدة والصورة، وصل أبو فوزي إلى نهاية رحلته. شاحنته كانت مليئة بالذخيرة ومقاتلي "داعش" أرادوا أن تكون مخبأة.

وعندما عاد في نهاية المطاف، سالماً، من قبل "قسد" عن المكان الذي أنزل فيه البضائع.

"لقد أريناهم الموقع على الخريطة، لقد علمته حتى يقصفه العم ترامب لاحقاً"، قال أبو فوزي.

بعض مقاتلي "داعش" الأكثر خطورة، والمطلوبين بشدة، هم الآن منتشرون بعيداً وعميقاً في سوريا وجوارها.

"في الأسابيع الماضية، كان لدينا الكثير من العائلات التي غادرت الرقة وأرادت الذهاب إلى تركيا. هذا الأسبوع لوحده، أنا شخصياً شاهدت تهريب 20 عائلة"، كما قال عماد، المُهرب عبر الحدود السورية-التركية.

"معظمهم أجانب، ولكن هناك سوريين من بينهم".

عماد يطلب 500 دولار على الشخص، وكحد أدنى 1500 دولار على العائلة.

في هذه المهنة، العملاء لا يتكرمون عادة بالإجابة على الأسئلة. لكن عماد قال إن هناك فرنسيين وأوروبيين وأوزبك وشيشانيين.

"بعضهم كان يتكلم الفرنسية، وآخرون بالإنكليزية، وبعضهم بلغات أجنبية".

وبينما زادت تركيا إجراءاتها الأمنية على الحدود، أصبح التهريب أكثر صعوبة.

"في بعض المناطق نستخدم السلالم، وفي أخرى نعبر أنهاراً، وأحياناً نسلك دروباً جبلية وعرة. إنه وضع بائس"، كما قال مهرب آخر يدعى وليد.

وليد قال إن الأمر يصبح مختلفاً إذا كان المطلوب تهريب عضو رفيع من "داعش".

"هؤلاء الأجانب لديهم شبكاتهم الخاصة من المهربين. وغالباً نفس من ساعدوهم في دخول سوريا. هم متعاونون مع بعضهم".

التهرب قد لا يفيد الجميع. أبو مصعب حذيفة كان واحداً من أسوأ أعضاء "داعش" سمعة في الرقة. رئيس استخبارات "داعش" كان في القافلة التي خرجت من الرقة في 12 تشرين الأول.

لكنه الآن خلف القضبان، وقصته تعكس الأيام الأخيرة لانهيار الخلافة.

"الدولة الإسلامية" لا تفاوض. غير توافقية، مجرمة. هكذا هي أسطورة "داعش".

ولكن في الرقة، تصرفت "داعش" كأي جماعة مهزومة. محصورون، متعبون، وخائفون على عائلاتهم، أجبر مقاتلو "داعش" على التفاوض في 10 تشرين الأول.

"القصف الجوي استهدفنا لأكثر من 10 ساعات. لقد قتلوا 500 أو 600 شخص، من المقاتلين وعائلاتهم"، كما قال أبو مصعب.

"وبعد ذلك انطلق التفاوض مرة أخرى. هؤلاء الذين رفضوا الهدنة في البداية غيروا تفكيرهم. وهكذا غادرنا الرقة".

لقد جرت 3 محاولات للتفاوض على اتفاق سلام. فريق من 4، بينهم مسؤولون رسميون محليون من الرقة، قادوا المفاوضات.

الآن، في السجن على الحدود السورية-التركية، يقبع أبو مصعب. وقال إن القافلة وصلت إلى منطقة قريبة من الحدود السورية-العراقية. الآلاف هربوا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024