سوريا: عدو واحد واحتلالات كثيرة

يوسف بزي

الإثنين 2019/10/14
أعرف سوريين كثراً. الكرد منهم والعرب. أهل البداوة كما أهل الجبال والسهول والمدن والحواضر. أعرف ذوي الأصول الفلاحية وذوي الأصول المدينية. أعرف الآتين من أقاصي الشرق والشمال والساحل والآتين من حوران وجبل العرب. أعرف النبلاء منهم والأنذال، الفقراء والأغنياء ومتوسطي الحال، الشبان المتلهفين والكبار المتعبين. وأكثر ما أعرف المثقفين منهم، المشهورين منهم والمغمورين. وأيضاً، أعرف الأميين أو المعدمين الباحثين عن عمل يومي في شوارع بيروت. بل وأعرف ضباط المخابرات الحقراء والجنود الرثّين.

أعرفهم، مسيحيين وعلويين ودروزاً وسنّة واسماعليين.. الملحدين منهم والمؤمنين واللاأدريين.. لهجاتهم وطباعهم ومطابخهم ونكاتهم وحزازاتهم وأحزانهم وطقوس أفراحهم وبعض قصص حبهم وأخبارهم القديمة وأسرارهم الخبيئة. أعرف طيبتهم ومثالبهم، شهامتهم وكرمهم كما نواقصهم وعيوبهم.

طوال ثلاثة عقود كان السوريون في صلب حياتي وتجاربي وصداقاتي وعملي وانتباهاتي وكتاباتي وقراءاتي وسهراتي ومعشري وصِلاتي الوطيدة أو العابرة. وهذا ما جعل حياتي – على ما أعتقد – أرحب وأغنى وأوسع.. لكن مشوبة أيضاً بالألم لكثرة الأحزان السورية. 
بعد كل هذا العمر والعِشرة، أشد ما أعرفه وما أوقنه، أن للشعب السوري عدواً واحداً: نظام الأسد.

الأذى الذي وزعه هذا النظام على كل السوريين من دون استثناء (بما في ذلك مؤيديه، طالما أنهم ضحايا تشويهه لأرواحهم وتسميمه لنفوسهم وإعطاباً لضمائرهم وإفساداً لعقولهم)، يجعله عدوهم الأول من دون منازع.

أنحاز لفكرة واحدة أن كل ما يفرق بين السوريين، كل الضغائن التي تنمو في ما بينهم، كل الجروح التي أصابت روابطهم، كل الأحقاد المتراكمة في ما بينهم حتى ولو كانت موروثة وقديمة وموغلة في الذاكرة ما كانت لتتحول إلى قوة فتاكة بينهم لولا تغذية النظام لها و"تربيتها" وتأصيلها واصطناعها وارتكابها.

النظام برهن عبر تاريخه أنه يكنّ عداء واحتقاراً للشعب السوري، حتى قبل أن يشهر السوريون عداءهم لهذه العصبة الإجرامية. هو الذي اختار عن سبق تصور وتصميم العداوة. وبحافز من كراهيته واحتقاره اقترف كل ما يمكن عمله لـ"تمزيق" الروابط بين الجماعات والطوائف والإثنيات وجعلها هكذا متنابذة ومتحاقدة.

بهذه القناعة الراسخة، لن أنحاز للعرب ضد الكرد. ولن أؤيد حزباً كردياً ضد السكان العرب. ولن أقف مع طائفة ضد طائفة. لن أنجر لتمجيد عبدالله أوجلان ولن أتعامى عن شجاعة المقاتلات الكرديات بوجه البربرية الداعشية.

سأظل منحازاً للمدنيين تحت القصف في أي بلدة أو مدينة أو قرية سورية، للمشردين على طرقات حلب وإدلب وحماة ودرعا ودير الزور وكوباني وعفرين وتل أبيض ومنبج وجرابلس والدرباسية.. ومن أي طائفة أو إثنية أو جماعة وعشيرة. سأظل مع الذين أحبهم من كل أنحاء سوريا.

لا أحب "الانفصاليين" متى كان انفصالهم عنوة عن السكان وعن خياراتهم، تماماً كما لا أطيق "الوحدويين" متى كانت وحدتهم إنكاراً للتمايزات والحقوق والتنوع والاختلاف، وقسراً في الضم وإجباراً في الدمج.

لا أتغافل عن مظلومية "الإخوان المسلمين" مثلاً ولا عن اقترافاتهم بحق خصومهم في آن واحد. لا أساوم في إدانة الميليشيات المتطرفة والمتعصبة والقاتلة، ولا أسامح الذين جعلوا الكرد مغتربين عن الثورة السورية. لا أنكر حقوق الكرد ولا أصمت عن تهجير العرب وطردهم.

والأهم أني لا أنسى أن الذي دفع هؤلاء وأولئك لأن يكونوا هكذا هو النظام السوري، الذي أخرج الكرد والعرب والأرمن والسريان والشركس والأشوريين، كما الطوائف والملل من "الرابطة الوطنية" إلى الخيارات الانتحارية أو القاتلة أو اليائسة.

الجريمة الأصلية بدأت بعد أن رأى النظام انشقاق عشرات الآلاف من جنوده، وخروج معظم سوريا عن سيطرته، فانتقل إلى الحرب الطائفية السافرة، وراح "يستورد" عشرات الآلاف من الباكستانيين والأفغان والأذربيجانيين والأوزبك والإيرانيين والعراقيين واللبنانيين والمرتزقة من كل الجنسيات.. انقضاضاً على السوريين. لقد أخذ قراراً "استراتيجياً" باستباحة سوريا.

هذه الاستباحة استدعت علناً الاحتلالات المتتالية والمتعددة. ولقد كان هذا الفعل هو المؤامرة الكبرى التي أرادها النظام: تبديد سوريا وتشريد شعبها وتمزيق اجتماعها.

النظام الذي رفض عمداً استعادة الجولان مقابل السلام. والنظام الذي تنازل بسهولة فائقة عن اسكندرون. وفي الحالتين، من أجل بقائه. ليس عسيراً عليه وللسبب نفسه إباحة أرض سوريا ودم السوريين لكل من أراد.

وفق هذا، المسؤول الأول عن كل احتلال هو بشار الأسد وحاشيته وجيشه و"دولته". فالذي جعل الكرد يائسين من هويتهم السورية وجعل العرب منزلقين إلى تنظيمات التطرف والتعصب والاقتتال لصالح هذه الدولة أو تلك، أكانت تركيا أو السعودية أو روسيا أو إيران أو الولايات المتحدة أو ما شابه، ليس إلا بشار الأسد ونظام "البعث". وعندما أقول "كرداً" و"عرباً" فبداهة ليس على سبيل التعميم على أي حال.

من السهل أن يؤيد البعض تركيا في هجومها العسكري على شمال شرق سوريا، من جهة، كما من السهل التعاطف مع قوات "قسد" أو "وحدات الحماية الشعبية"، من جهة ثانية. لكن من الصعب جداً إدانتهما معاً، لا من موقف النظام السوري الخبيث ولا من موقف المعارضة السورية العوراء ولا من موقف إيران التآمري ولا من موقف روسيا الكاذب. بل من مبدأ وحدة حقوق السوريين.

فالجريمة الكبرى هي انقلاب الحرب من ثورة ضد نظام، إلى حروب أصحاب حقوق ضد بعضهم البعض. فانتفت بذلك وحدة قضية "حقوق السوريين". باتت حقوقا متفرقة ومتضادة على نحو ينفي بعضها البعض ويفنيها.. يبدد مسوغاتها وسمتها كـ"حق". وهذا هو "انتصار" النظام وخراب سوريا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024