مخيّم الهول..قصص معاناة لا مثيل لها

المدن - عرب وعالم

السبت 2021/05/01
استعرض رضا إشاغيان، رئيس الفريق الطبي التابع منظمة أطباء بلا حدود في مخيم الهول في سوريا، في مقال خاص ل"المدن"، تجربته داخل المخيم. ويكشف وجوه المعاناة التي يلاقيها النازحون السوريون الذين تقطعت بهم سبل الحياة ورمتهم في تلك البقعة من بلادهم.

فيما يلي نص المقال:
لم تكن تجربتي في مخيّم الهول للاجئين المرة الأولى التي أعمل فيها مع منظّمة أطباء بلا حدود في المخيمات، غير أنّ مُرًّ الحياة الذي عشت في خضمه هناك كان الأشد بالتأكيد. لا يتكشّف وجه المعاناة في هذا المخيّم بالنظر إلى المؤشرات الصحيّة التقليديّة التي نعتمد عليها عادةً، ففي أحشائه معاناة نفسيّة وجسديّة هائلة. هي معاناة أُريد لبعض أشكالها أن ينبت عن قصد في بعض الأحيان، فترمي بظلالها على الأشخاص الذين يعيشون في المخيّم.
عملتُ مع منظّمة أطباء بلا حدود كقائدة للفريق الطبيّ في مخيّم الهول من نوفمبر/تشرين الأوّل 2020 إلى فبراير/شباط 2021. ووصلتُ إلى المنزل في مدينة فانكوفر منذ 13 يومًا وأنهيتُ الحجر الصحيّ. أثناء هذا الحجر، فكرتُ عميقًا بما شهدته في مخيّم الهول وقررتُ مشاركة تجربتي معكم.
عندما وصلتُ إلى المخيّم لأوّل مرّة، أتضح أنّه مكان مغلق يضم أطفالًا بمعظمه. وتشير المعلومات الصادرة حوله أنه يأوي 62 ألف شخصٍ، من بينهم أكثر من 40 ألف طفل. وتتأكّد القوات الأمنيّة من تفتيش العاملين في المساعدة الإنسانيّة عند دخولهم المخيم وخروجهم منه، وغالبًا ما تستغرق هذه العملية أكثر من ساعة. أما ما يسمى بالملحق، فهو عبارة عن جزء منفصل من المخيم، يُحتجز فيه الأشخاص الذين ليسوا من الجنسيّة السوريّة أو العراقيّة، وتطبّق فيه أيضًا قيود أكثر صرامةً على الخدمات والقدرة على التنقل. في بداية الفترة التي أمضيتها هناك قبل أن تستكمل السلطات المحليّة بناء السياج حول الملحق، اعتاد الأطفال الذين يعيشون فيه مراقبتنا وشكّل خندق صغير فاصلًا بينهم وبين العالم الخارجي. اختلف هؤلاء الأطفال عن غيرهم، فلم يلعبوا أو ينزلوا لعبور الخندق، بل راقبونا فحسب، لأنّهم علموا أنّه ممنوع عليهم العبور. أتسائل حتى اليوم عن التجارب التي مروا بها والتي قد تكون هي ما ولّد لديهم هذا التسليم للقيود المتجسدة بهذا الخندق.
توفّر منظّمة أطباء بلا حدود خدمات المياه والصرف الصحيّ والرعاية الطبيّة في المخيم. وتشمل خدمات المياه والصرف الصحيّ مراقبة البنى التحتيّة، وكَلْوَرة المياه، ومراقبتها، وتوصيلها، وتنظيف المراحيض وخزانات المياه. كذلك تشمل خدماتنا الطبيّة علاج سوء التغذية لدى المرضى المقيمين ومرضى العيادات، وتقديم الرعاية المنزليّة للمصابين بأمراض مزمنة، والعناية بالجروح، والتثقيف الصحيّ، وعيادةً لمرضى السكريّ، بالإضافة إلى مركز في الملحق يوفّر الرعاية الصحيّة الأساسية الشاملة. وفي أوقات الحاجة التي لا تتواجد خلالها جهات فاعلة أخرى لتقديم الخدمات الصحية، نعالج مرضى يعانون من احتياجات صحيّة طارئة في مركز التغذية العلاجيّة للمرضى المقيمين. ونتعاون مع المنظمات غير الحكوميّة الأخرى التي تُعنى بالصحة، والتي قدمت أشكالًا أخرى من رعاية الحالات الحادة. ونعمل على إحالة المرضى من منظمتنا إلى منظمات أخرى أو بالعكس لتقديم الرعاية الطبيّة. غير أنّ التحدي الأكبر يكمن في إحالة المرضى إلى مستشفى في الحسكة التي تعد أقرب مدينة وتبعد ساعةً واحدةً، وذلك لكي يحصلوا على رعاية متخصصة أو مستوى رعاية أعلى غير متوفر في المخيم. تدير منظّمة غير حكوميّة أخرى إدارة الإحالات إلى مدينة الحسكة ولا يُسمح لها بالإحالة إلا في حالات الطوارئ الحرجة، مع اصطحاب حارس مسلّح في السيارة معهم وبقاء أحد أفراد الأسرة في غرفة الاحتجاز في المخيم كضامن. خلال الفترة التي قضيتها في مخيم الهول، لم يُسمح لأيّ فرد من أفراد الأسرة بمرافقة المرضى، ولا حتى الأطفال، بغض النظر عن عمرهم.
ذات صباح خلال العمل، رأيتُ الدخّان يتصاعد على مقربة من مرفق الرعاية الصحيّة الخاص بنا في المخيم. سألتُ زميلًا لي عن مصدر الدخان وأجاب "إنّه حريق"… نظر إلى هاتفه للحصول على مزيد من المعلومات، ثم أردف، "هناك 3 أطفال في الخيمة... كان من الصعب جدًا إنقاذهم". فالتفت مجددًا إلى مشهد الدخان المتصاعد في حالة من الصدمة. كثيرًا ما يؤدي المزيج القاتل بين الخيام القابلة للاشتعال والمدافئ إلى وفاة الأطفال حرقًا، وعدد الأطفال الذين قضوا على هذا النحو لا يصدق. إنّ مخيم الهول مكانٌ غير آمن وغير صالح للعيش. فمنذ بداية العام 2021، قُتل حوالي 50 شخصًا عمدًا في المخيم. وبينما كنتُ أعمل فيه، أذهلني الضغط النفسيّ الذي يشعر به الأشخاص وهم يحاولون البقاء على قيد الحياة يومًا بعد يوم، يتملكهم الخوف على حياتهم وحياة أطفالهم، وهو شعورٌ يتفاقم بسبب اليأس الناجم عن عدم اليقين الذي يُضَبِّب مستقبلهم.
وتقيّد السلطات المحليّة القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحيّة في المخيم. ولا يمكن الحصول على هذه الرعاية في الملحق إلّا بين الساعة 9 صباحًا والثانية بعد الظهر. ويتوفر عددٌ قليلٌ من العيادات المتنقّلة الأخرى إلى جانب عيادة منظّمة أطباء بلا حدود القائمة خارج الملحق مباشرة. ويتعيّن على النساء والأطفال المرور عبر نقطة تفتيش مسلّحة للوصول إلى عيادة أطباء بلا حدود. وفي كثير من الأحيان، نرى هؤلاء النساء يتعرضن للاعتداء اللفظيّ والجسديّ في طريقهن إلى العيادة، ما يشكّل عائقًا كبيرًا بينهن وبين الوصول إلى الرعاية الصحيّة. أما بالنسبة للمرضى الذين يحتاجون إحالة إلى مستوى رعاية أعلى، فغالبًا ما كانت تتأخر عمليّة الإحالة أو تفشل بسبب نظام الإحالة المحدود وغير الفعّال.
في السياق نفسه، تسمح السلطات المحليّة لمنظّمة أطباء بلا حدود بالدخول إلى الملحق لتوفير خدمات المياه والصرف الصحي. وصُدمت حين رأيتُ الملحق بأمّ عينيّ. يضمّ الملحق حسب التقارير نحو 9,000 شخص، وتستنج على الفور من أول نظرة أنّ ثلثيهم من الأطفال. ينتشر الأطفال في كل مكان، يشعرون بالملل، فلا مكان لديهم للعب وما من شيء يبعث فيهم النشاط. لكن شوهد عديد منهم وهم يتسلقون شاحنات المياه أثناء مرورها. وتغمر المياه الراكدة مساحات شاسعة في الملحق، حيث تكافح النساء لدفع العربات بين الوحل بعد جمع الأغراض من السوق. غرقت بعض الخيام في الوحل، وأتضح أنّ الماء يدخل إليها عند هطول الأمطار. زد على ذلك أكوامًا من القمامة في كلّ مكان. لا يعد هذا المكان آمنًا لتواجد للأطفال، وهو بالتأكيد غير مناسب لتربيتهم فيه.

فيما يلي بعض التجارب التي شهدتها في مخيم الهول
القصّة رقم 1:
وقفت مع فيكي (ممرضة) وياسمين (مترجمة) في غرفة الانتظار في عيادة أطباء بلا حدود المخصصة للملحق قبل أن تفتح القوات الأمنيّة البوابة من جهة الملحق. ترقبنا يوم عملنا بأذهان فارغة.
فجأةً اندفع رجلٌ مضطرب يحمل جسدًا في يديه، معكّرًا الصفاء والهدوء الذي كان يعمّ المكان. غطى الدم معطفه وبدا الذعر على وجهه. هرعنا لنرشده إلى الغرفة المناسبة التي تحتوي على إمدادات الطوارئ وأشارنا عليه أنّ يضع من بين يديه على النقّالة. بعد ذلك خرج الرجل مسرعًا وعاد إلى البوابة.
فحصت بمساعدة ياسمين المريض، ليتضح أنّه طفل يبلغ من العمر 8 سنوات تقريبًا، يرتدي سروال جينز وسترةً وحذاءً رياضيًا. بدت كسور في جمجمته في جهة أنفه وعينيه وتقطّر الدم من أنفه ببطء. لا شك بأنه تعرّض لصدمة قويّة حادة. لم يكن الطفل يتنفس ولم نعثر على نبضه.
توفي.
عمّ الصمت، لكن تسارعت أفكارنا. ماذا حدث؟
نظرت فيكي إليّ وقالت "دعيني أكتشف ما الذي حدث" ثمّ خرجت من الغرفة.
بمجرد خروج فيكي، عمّ الذعر في الغرفة. وصلت ثلاث نساء يرتدين نقبًا سوداء ويصرخن. واحدة تصرخ وتنادي الصبيّ ليستيقظ. أخرى تتوسل باللغة العربيّة للحصول على إجابات. فور رؤيتها لتعابير وجهي ووجه مريم، انهمرت بالبكاء.
"ياسمين، هل يمكنكِ أن تترجمي؟"
"بالطبع"
". . . . . أنا آسفة . . . فقد توفي"، ترجمت مريم.
بدأت النساء الثلاث بالنحيب. بينما كنا نحن نقف متمسّكين بالصبر.
بعد لحظات قليلة، عاد القليل من الهدوء 
"هل لي أن أسأل، ماذا حدث؟"
وجدت ياسمين صعوبةً في تفكيك لغتهم العربيّة، فلم تكن لغتهن الأم. فهمت أن الطفل كان يلعب في السوق مع الأولاد الآخرين. ثم رأى صخرةً كبيرةً على احدى الجدران. مدّ الصبي يده إلى الصخرة وشدها فسقطت عليه. شاهد رجلٌ يعمل في السوق الحادثة، فحمله وهرع إلى عيادتنا.
أرَدْن إعادة الصبيّ إلى خيمتهن لغسله وفقًا لتعاليم الشريعة الإسلاميّة...
أجبتُ "إذا كانت هذه رغبتهن، فلا مشكلة لدينا".
جهزت وياسمين الصبيّ بشكل لائق، ضممنا ساقيه ببعضهما وقربنا ذراعيه إلى جانبيه. نظفنا القليل من الدماء ووضعنا ملاءة فوقه. خرجنا من الغرفة لمنح الأسرة لحظات معه.
بعد أن خرجتُ من الغرفة، قيل لي أنّ السلطات لن تسمح بأخذ جثمان الصبي إلى الخيمة. سيأخذونه إلى مكان مختلف ليدفنوه. لن يسمحوا لأيّ شخص من الملحق، ولا حتى أفراد عائلة الصبيّ، بمرافقة الجثمان ولن يُسمح لأحد بحضور الدفن. الصبي كان بمثابة سجين.
عدتُ إلى الغرفة لأخبرهنّ بالقيود التي فرضتها عليهن السلطات.
"لن تسمح لكن السلطات بإعادته إلى الخيمة. وقد استدعت سيارة الإسعاف لنقله. كما أكّدت لنا أنّه سيتم دفنه بشكل مناسب وفقًا لتعاليم الشريعة الإسلاميّة. أنا آسفة."
وقفت امرأة من بينهن متجهة نحوي وبدأت بالصراخ. اشتعلت عيناها، وكأنّها تطلب مني أن أنظر مجددًا في عينيها وأكرر لها ما قلت. لم تستطع المترجمة مواكبة كل ما قالته، ولم تكن بحاجة لذلك، فنبرة صوت المرأة كانت كافيةً وقلت في نفسي أن ردّها مبرر.
حاولت امرأةٌ أخرى تهدئة المرأة المضطربة. فاستسلمت للأمر الواقع ونظرت إليّ وقالت:
"تريد لأفراد عائلتها أن يروه قبل أن يتمّ نقله".
جاوبت، "بالتأكيد".
خرجتُ أنا وياسمين من الغرفة وتوجهنا إلى البوابة، حيث رأينا قرابة 20 امرأةً والعديد من الأطفال. عمّ الهدوء المكان، بينما سرتُ مع مريم باتجاه الحراس. لم يتصرفوا بتعالي كالمعتاد، بل بتسليم، فوفاة الطفل مأساوية، حتى لو كان بمثابة سجين. أخبرتهم بما حصل ووافقوا على السماح لبعض أفراد الأسرة بالدخول. وصلت سيارة الإسعاف في نفس الوقت، فسألت السائق، "هل يمكنكَ أن تمنح الأسرة بعض الوقت لرؤية الجثمان؟ فلن تتمكّن من رؤيته مرةً أخرى". وافق السائق.
عدتُ أنا وياسمين إلى غرفة الانتظار وعاد الهدوء الذي كان يعمّ الغرفة في وقت سابق. تكرر خروج بعض النساء من الغرفة التي يرقد فيها جثمان الصبيّ ودخولهن إليها. ورغم عدم تلقينا لمرضى آخرين، عاد جميع الموظفين إلى غرف الاستشارة الخاصة بهم.
ثم انتظرنا. أخرجتُ حاسوبي كيّ أنجز بعض المهام، ولكني اكتفيتُ بالتحديق في الشاشة.
. . .
قالت ياسمين: "أصبحن جاهزات".
نظرتُ بعيدًا عن شاشة حاسوبي، فرأيت الباب ينفتح وخروج النساء من الغرفة باتجاه البوابة. خرجت الأم وهي تحمل ابنها بين ذراعيها. أزلن الملاءة وعرضن جثمانه ليراه الجميع.
"لم أرَ جنازةً كهذه من قبل، ولكن ماذا للمرء أن يتوقع في مكان كهذا، مكان لا تستطيع الأم فيه أن تختار طريقة دفن ابنها".
عادت إلى البوابة. ولحقتُ بها أنا وياسمين.
أعلنت الأم بصوت عال عن وصول ابنها. فشدت انتباه كل من حولها. سارت باتجاه البوابة المغلقة، وعرضت ابنها أمام الشهود المسجونين. مدّت النساء من الجانب الآخر من البوابة أذرعهن ودعين له، هامسات، بينما أبقى الحراس أنظارهم بعيدًا عن المشهد. احترم الجميع مراسيم هذه الجنازة الفريدة، وليدة الظروف الاستثنائية. وقفت الأم برهةً للسماح لكل الحاضرين برؤية ابنها ومعرفة ما سيحدث له. ثمّ نقلته إلى سيارة الإسعاف.
عم صوت البكاء، وواست النساء بعضهن البعض.
بعد 5 دقائق، ظهرت امرأةٌ مسنة من وراء عدد من النساء اللواتي تجمعن على الجانب الآخر من البوابة، تمسك بيدها فتاة صغيرة، ربما بلغت من العمر 6 سنوات. فتح الحراس البوابة وسمحوا لهما بالدخول. علمنا أنّهما جدّة الصبيّ وأخته. التقيا مع الأم، وسرن معًا إلى سيارة الإسعاف. في بداية النهار كانوا معًا، والآن عليهن توديع حفيدهن، وابنهن، وأخيهن، فستأخذه سيارة الإسعاف بعيدًا بعد لحظات.
خرجت الجدّة والأخت والأم من سيارة الإسعاف بعد قليل، وعدّن إلى البوابة.
وابتعدت سيارة الإسعاف.
عمّ جو من الحزن، وعادت النساء واحدةً تلو الأخرى إلى خيامهن.
. . .
قضيتُ اليوم التالي بأكمله في المكتب. وفي آخر النهار، أتى زميلي الطبيب وأخبرني
". . . حدث الأمر ذاته مرةً أخرى اليوم ... "
"ماذا تقصد. . . طفلٌ آخر؟ "
"نعم. . . هذه المرة اصطدمت شاحنة مياه بصبيّ يبلغ من العمر 7 سنوات"
قلتُ لنفسي حينها، إنّ ملحق المخيم ليس مكانًا آمنًا للأطفال.
القصة رقم 2:
أمينة فتاةٌ تبلغ من العمر 9 سنوات فقدت والديها، وهي تعيش في الملحق ويتولى رعايتها أحد سكان المخيم المتعاطفين مع وضعها.
قابلتُ أمينة لأوّل مرة في عيادة أطباء بلا حدود في تشرين الثاني/نوفمبر. أصيبت بمرض في الكُلى في آب/أغسطس وأُحيلت إلى مستشفى في مدينة الحسكة. وبسبب نظام الإحالة غير الفعّال وسوء نقل المعلومات الطبيّة نتيجة القيود التي تفرضها السلطات المحليّة، يُرسل الأطفال بمفردهم من دون شخص بالغ ليرافقهم، مما يصعّب محاولة فهم الحالة التي يعانون منها. ونتيجة لكل ذلك، لم نعرف ما هي الاختبارات التي أجريت لها أو العلاجات التي تلقتها. لم نعرف حتّى نوع مرض الكلى الذي تعاني منه. الأمر الوحيد الذي اتضح هو أنّها خضعت لغسيل الكلى في المستشفى. يعد غسيل الكُلى علاجًا للأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الكُلى ويعمل على الحفاظ على حياتهم ويحتاج الشخص إلى إجراء عدّة جلسات غسيل كُلى في الأسبوع.
في كل مرة أتت أمينة إلى عيادتنا، تحملها امرأتان في ملاءة كبيرة. تصل أمينة إلى العيادة متأخرةً جدًا في إجراءها لغسيل الكُلى. غالبًا ما يُرفض طلب إحالتها ويتعيّن علينا إعادة تقديم هذا طلب يومًا بعد يوم حتى يتم قبوله. لم تسمح السلطات المحليّة لشخص بالغ بمرافقتها، وهي لا تتحدث العربيّة. يتطلّب غسيل الكُلى ساعات وتجلس متصلة بجهاز لغسيل الكُلى من خلال قسطرة وريديّة كبيرة في الرقبة. تخيل الخضوع لمثل هذا الإجراء الطبيّ وأنتَ قي التاسعة من العمر من دون أن يرافقكَ أحدٌ أو حتّى يشرح لكَ طبيعة الإجراء بلغتك. عندما تدرك أنّه سيتمّ إحالتها، تبدأ دائمًا بالبكاء. كانت تخشى العودة إلى المستشفى. من الواضح أنّ التجربة مؤلمة جدًا لها في كل مرة.
مع تعذّر حصولنا على تفاصيل الإحالة من المستشفى التي تستقبلها، لم نتمكن من تقديم الخطوات اللازمة المرافقة لعلاجها. غالبًا ما تخرج من المستشفى في مدينة الحسكة وتعود إلى خيمتها في الملحق. تأتي إلى عيادتنا بعد أسبوع أو أكثر ولا نحصل على أيّ معلومات عمّا حدث معها. لا نعلم حتّى بخروجها من المستشفى.
أتضح آن ذاك أنّ الظروف في المخيم ونظام الإحالة غير الفعّال لن يساعدها على المدى الطويل. وتجلى هذا أيضًا للشخص الذي اعتنى بها، فعبّر عن قلقه بشأن أمينة وسألنا عما إذا كان بإمكاننا المساعدة في إخراجها من الملحق والعثور على أسرة أخرى لرعايتها. تعاونا مع منظّمة إنسانيّة دوليّة أخرى ودعونا السلطات المحليّة لإيجاد حلّ لهذه الفتاة. وبالرغم من كل الجهود المبذولة، توفيت لسوء الحظ في خيمتها في الملحق.
بَعُد العلاج الذي حافظ على حياتها ساعةً واحدةً فقط عنها. وأدّت القيود القاسية المفروضة عليها وتعذر حصولها على الرعاية الصحيّة إلى مقاساتها لمعاناة استمرت عدّة أشهر، ما أسفر عن وفاتها. 
القصّة رقم 3: 
تقع عيادة أطباء بلا حدود الخاصة بالملحق في "منطقة خدمات الملحق" التي تخضع للرقابة الأمنيّة، وتفتح من الساعة 9 صباحًا حتى الثانية بعد الظهر. ذات صباح، وأنا في هذه العيادة، طَلب مني زميلي مراجعة مريض معه. دخلتُ الغرفة ورأيتُ طفلاً في الثالثة من العمر مصابًا بحروق من الدرجة الثانية في وجهه وذراعيه وصدره وبطنه. كان مستلقيًا، لا يصدر منه أي صوت، بل يذرف الدموع. اتضح أنّه يعاني من ألم شديد. أخبرتنا والدته أنّها اضطرت إلى مغادرة الخيمة للحصول على بعض الطعام، عندما أوقع هذا الصبي المدفأة في الخيمة واشتعلت فيها النيران. حدث ذلك مساء أمس. وبما أنّ العيادة لا تفتح حتى الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي بسبب الإجراءات الأمنية التي تفرضها السلطات المحليّة، انتظرت مع ابنها حتى فتحت البوابة. استلقى الطفل طوال الليل من دون تقلي أي رعاية طبيّة ولا مسكنات للألم.
بدا الطفل هادئًا، ومع ذلك رأينا معاناته بوضوح شديد. تمكّن فريقنا من تركيب قسطرة وريديّة، وقدّم له مسكنات للألم والسوائل. كما استطعنا إحالته إلى مدينة الحسكة للحصول على مستوى أعلى من الرعاية. ودعته والدته فلم يُسمح لها بمرافقته، بسبب القواعد الصارمة التي تفرضها السلطات المحليّة.
بعد ذلك، أتت والدة الصبي كل يوم إلى العيادة لتسأل عن حال ابنها الذي لم يعد بعد من مدينة الحسكة. تواصلنا في كل مرة مع الجهة المحيلة، فتصلنا أخبارٌ بأنّه لا يزال في المستشفى، ولا أكثر.
بعد يومين، ورد من مكتب الإحالة أنّ الصبيّ البالغ من العمر ثلاث سنوات توفي وحده في المستشفى.
انفطر قلبنا من الخبر الذي كان علينا أن ننقله إلى أم الطفل.
وبسبب التوقف الموقت في نظام الدفن في المخيم، والقيود الصارمة التي تفرضها السلطات، لم يعد جثمان الصبيّ إلى المخيم. ولم تتمكن والدته من رؤيته مرةً أخرى. حاولنا الحصول على صورة له لتراها والدته، ولكن محاولتنا باءت بالفشل.
دُفن الصبيّ بعد أسبوعين في بلدة لم يزرها قط، محاطًا بأشخاص لم يعرفهم يومًا.

القصّة رقم 4: 
وصلت ذات يوم مولودةٌ جديدة جميلة إلى جناح سوء التغذية في المخيم. عُثر عليها في المخيم بمفردها بعد ولادتها بفترة وجيزة، ولم يتّضح ماذا حدث لوالديها. وعانت من الجفاف ونقص الوزن. تمكنا من إنعاشها وتزويدها بالتغذية اللازمة ليزيد وزنها بالشكل المناسب مع مرور الوقت. اتسمت بالجمال وبابتسامة لا تكاد تفارق وجهها. استحوذت على قلب جميع موظفينا في الأشهر التي مكثت فيها تحت رعايتنا. في البداية، كانت بحاجة إلى رعاية طبيّة في منشأتنا، ولكن حتّى بعد أن أصبحت بحالة جيدة من الناحية السريريّة، بقيت لدينا لبضعة أشهر أخرى في انتظار أن تعثر المنظّمة المعنية لها على عائلة مناسبة ترعاها. عرضت العديد من العائلات داخل المخيم تبني الطفلة. وفوجئنا بعدد الطلبات التي قدّمتها العائلات في المخيم للإعتناء بها. اختارت منظّمة مسؤولةٌ عن حماية الطفل عائلةً وسهلت عمليّة تبنيها. فسعدنا بحصولها على عائلة جديدة، ولكن حزنّا في الوقت ذاته لأنّ الفرصة لم تسمح لها بمغادرة مخيم الهول.
ما الجريمة التي ارتكبتها هذه الرضيعة ليُحكم عليها بقضاء حياتها في مخيم الهول رغم كونها يتيمة؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024