الجزائر..واستعادة الذاكرة المثقلة بالدم

يوسف بزي

الأربعاء 2019/02/27
نصف سكان الجزائر هم من الشباب دون سن 25 عاماً. واحد من أكثر البلدان فتوة، يحكمه رئيس تجاوز للتو سن 81 عاماً، مصاب بجلطة دماغية، أقعدته منذ سنوات، وبات من النادر ظهوره العلني، عدا أنه لم يخاطب شعبه لفترة طويلة.

مع ذلك، فقد رشح عبدالعزيز بوتفليقة نفسه للرئاسة، لولاية خامسة متتالية. وبالنظر إلى حال هذا الرئيس الصحية، التي تمنعه من ممارسة مهامه، فالأصح القول أن "النظام" هو الذي قرر ترشيحه. الواضح، أن السلطة الحاكمة لا تخشى شيئاً بقدر خشيتها من أي تغيير.

لم يسبب هذا القرار رد فعل احتجاجياً مباشراً في الشارع. فالجزائريون كانوا مترددين في النزول إلى الساحات أو التظاهر. فقط، وبعد مضي ثلاثة أسابيع على إعلان "جبهة التحرير الوطني" اختيار بوتفليقة، واقتراب موعد الاقتراع في نيسان المقبل، بدأت تعلو الأصوات الاحتجاجية، كما أن مجموعات طلابية أخذت تتجرأ على الدعوة للتجمع والتظاهر.

مع اندلاع الثورة التونسية عام 2011، كان الجميع يترقب ما سيحدث في الجزائر المجاورة، التي شهدت بدورها محاولات لتنظيم احتجاجات، قمعتها الأجهزة الأمنية بفعالية، ولم تلق استجابة واسعة. وعلى الأرجح أن الجزائريين حينها كانوا أكثر ميلاً للهدوء والسكينة، وربما ما زالوا كذلك في سوادهم الأعظم. بفضل هذا، نجت الجزائر من "الربيع العربي"!.

يعود هذا الميل "المسالم" (حتى الآن) لدى القسم الأكبر من المواطنين الجزائريين إلى مرارة الذاكرة الوطنية. لقد اختبر الجزائريون ما سمي لاحقاً "العشرية السوداء"، أي الحرب الأهلية الممتدة من العام 1992 وحتى العام 2002. لقد كانت صراعاً دموياً وشرساً بين الجيش والأجهزة الأمنية من جهة والفصائل الإسلامية المتعددة وعلى رأسها "جبهة الإسلامية للإنقاذ" (ما يذكرنا بالوجهة الأخيرة لمآلات الربيع العربي).

هو المأزق أو الانسداد التاريخي نفسه في أكثر الدول العربية: توازن الرعب بين الإسلام السياسي والعسكريتاريا الحاكمة، وتُرجح كفة الطرف العسكري الحاكم دوماً، بسبب انحياز النخبة الثقافية والاقتصادية والبيروقراطية لها، لعجزٍ مريع عن توفير البديل الفعلي.

أزمة الجزائر الفعلية ابتدأت ما بين عامي 1988 و1989، حين أدرك الرئيس الشاذلي بن جديد أن النظام القائم منذ الاستقلال قد وصل إلى حائط مسدود. وبتأثير من انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، تجرأ على تبني الخطوات الإصلاحية المفضية إلى قيام نظام ديموقراطي متعدد الأحزاب، ودعا إلى أول انتخابات برلمانية ديموقراطية عام 1991، التي فازت بها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ". هذا الحدث عنى أن الحزب الحاكم منذ الاستقلال، سيخرج من السلطة، كما عنى أن الجيش سيفقد سيطرته على النظام السياسي وعلى الحياة العامة كلها. هكذا، تدخل الجيش في كانون الأول من العام 1991، ملغياً نتائج الانتخابات ومسيطراً على البلاد بقوة. فكان رد الفعل حرباً أهلية، امتدت لعشر سنوات، اتصفت بالمجازر اليومية والبالغة الوحشية.

الخوف من الإسلام السياسي، وبالأخص منه "الجهادي" والعنفي الذي كان سخياً بتقديم الشواهد على خطورته وإرهابيته، جعل التواطؤ الداخلي والخارجي مع السلطة العسكرية يرجح انتصارها.. وفي هكذا معادلة، تكون الديموقراطية أولى الضحايا بلا شك.

مع هكذا ذاكرة مثقلة بالدم، ومع غياب أي إشارة من النظام الحاكم عن استعداده لأدنى تنازل، فإن الجزائر ستواجه احتجاجات عابرة، ستخبو مع حملات القمع والتخويف (والتلويح بـ"عشرية سوداء" ثانية). هذا بالضبط هو رهان السلطة، لا فقط على ما يحمله الجزائريون من خوف تكرار الماضي، لكن لما شهده الجزائريون أيضاً في ليبيا ومصر وسوريا واليمن.. والسودان الآن.

مأساة الجزائر العميقة هي هذا الاستعصاء القديم في شرعية النظام، القائمة أبداً على "الثورة"، وأيديولوجية المليون شهيد، والحرب على الاستعمار. بقيت الجزائر هناك في لحظة الاستقلال عام 1962. بقيت الجزائر في ماضيها، ومشروع بناء دولة اشتراكية، وتصفية 200 سنة من الاستعمار والاستيطان، وإنكار كل ذاك الإرث، لصنع هوية "عروبية - إسلامية" صافية.

أفضت الاشتراكية إلى نظام عسكري–أمني، وبيروقراطية متضخمة واقتصاد ريعي غير منتج، تتحكم به الدولة حصراً. فيما الأيديولوجية العروبية أعاقت بلورة هوية وطنية خاصة بها.

الجمود في الزمن هو سمة الجزائر، كما هو سمة الأنظمة الشبيهة. أي تغيير هو مصدر رعب ومدخل إلى الفوضى والانهيار. الأيديولوجيا السائدة في هذا البلد ما زالت تستأنف حرباً على استعمار انتهى منذ ستة عقود، الشهداء المليون هم الأشباح الحاكمة في الحياة اليومية. بلد ثقافته تقوم على كره السياحة بوصفها ستأتي بحياة ومظاهر شبيهة بما كانت عليه الجزائر بزمن الاستعمار، حين كان يستوطنها الفرنسيون والإيطاليون والمالطيون والإسبان ويسكنها اليهود والمسيحيون.. إلخ.

يدفع الجزائريون ثمن هذا التخثر والانحباس في الماضي، والخوف من جريان الزمن وتحولاته، بأن يجلس ملايين العاطلين عن العمل في الشوارع (أجيال "الحيطست"، أو الحائطيين)، وأن تتبدد مئات المليارات من دون عمران ولا رفاهية ولا تنمية ولا حتى عمل.

الجزائريون اليوم، يواجهون حالاً مأسوية: لا فقط أن يتجاوزوا "ثورة المليون شهيد"، بما يعني اضطرارهم لصوغ سردية وطنية جديدة، بل أيضاً عليهم تفادي الحرب الأهلية التي بالكاد اندملت جروحها. هذا ما يطرحه عليهم المستقبل "المخيف". لكن الخوف الأكبر هو أن يبقى بوتفليقة رئيساً حتى بعد وفاته. فالعيش في الماضي هو موت أيضاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024