"القاعدة" و"تحرير الشام": أزمة التيار الجهادي وصراع الأجيال

عقيل حسين

السبت 2017/11/11
رغم شح المعلومات حولها، إلا أن مبادرة حل الخلاف بين تنظيم "القاعدة" و"هيئة تحرير الشام"، التي أطلقها عدد من رجالات التيار السلفي الجهادي ومشايخه، تحت عنوان "الصلح خير"، واجهت منذ البداية تشكيكاً وانتقادات، كما شهدت انسحاب بعض الموقعين عليها.

وإذا كانت المبادرة قد قابلها هجوم عنيف من خارج المدرسة السلفية الجهادية، بسبب ما ورد فيها من عبارات تمييزية ضد الجماعات غير المنتمية للمدرسة، فإن اللافت هو الانتقاد الذي تعرضت له من شخصيات من التيار، في إطار الخلاف حول القضية المركزية التي جاءت من أجلها المبادرة، وهي العلاقة بين "هيئة تحرير الشام" وتنظيم "القاعدة".

العديد من الاسماء الشابة في التيار، من المؤيدين لـ"تحرير الشام"، رأوا أن المبادرة خُرِقَت من قبل بعض الموقعين عليها، بتصريحات أو مواقف عبّرت، بحسب رأي المنتقدين، عن موقف مسبق متحيز لأصحابها من الموضوع محلّ الخلاف. وبغض النظر عن تحفظ هذا الفريق بالدرجة الأولى على وجود الداعية أبو محمد المقدسي بين الوسطاء، بسبب موقفه المناوئ لـ"هيئة تحرير الشام" التي يصر المقدسي على عودتها إلى مظلة تنظيم "القاعدة"، فإن ما هو واضح أن المواجهة الإعلامية المفتوحة بين الطرفين المتنازعين وأنصارهما، تكشف عن أكثر من تباين في وجهات النظر، بل عن خلاف عميق يتجذر بمرور الوقت داخل المدرسة السلفية الجهادية، ويمكن وصفه بأنه من نوعية الخلاف بين الحرس القديم وجيل الشباب.

صراع أجيال يرى البعض أنه يختلف هذه المرة عن الانقسامات والصراعات التي شهدها التيار خلال العقود الماضية، ويتوقعون أنه سيمثل نهاية حقبة جيل التأسيس، وبداية مرحلة جديدة مختلفة، لن يقوى الحرس القديم على عرقلتها مهما بذل من جهود.

الخلافات التي سبقت ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية"، اعتبرت جزءاً من تشكل الهوية في مرحلة التسعينيات، انتصر فيها التيار الجهادي المناهض للتيار القادم من مدرسة الأخوان. بينما اعتبرت خلافات المرحلة اللاحقة، عوارض طبيعية للتوسع والتضخم اللذين عرفتهما السلفية الجهادية وممثلها الرئيس تنظيم "القاعدة"، خاصة في ما يتعلق بالخلافات بين التنظيم والعديد من فروعه، إن كان في العراق أو الصومال أو شمال إفريقيا. الانفجار الذي أحدثه في النهاية تمرد فرع العراق على القيادة المركزية للتنظيم الأم، مع إسقاطه المرجعيات التقليدية للسلفية الجهادية بالاجمال، وبسبب ما شكله كل ذلك من تهديد وجودي للتيار ورموزه، فإن توحداً شبه جماعي تم تشكيله لمواجهة ذلك الخطر. إلى الحد الذي لم يكن ممكناً معه دراسة أسباب هذا التطور وسبل التعامل معه من قبل قادة التيار ومنظريه.

وبينما يرى الكثيرون أن التيار السلفي الجهادي لا يتمتع بالمؤهلات العلمية التي تمكنه من دراسة هذه التطورات والتعامل معها، وليس لديه القدرة بطبيعته على فهم التحولات ومجاراتها، فضلاً عن امكانية الاعتراف بها وتفهمها، بسبب قيامه على إيديولوجيا متصلبة، الأمر الذي جعل على الدوام من تشظيه مسألة وقت لا أكثر، فإن ظهور المشاكل والخلافات داخل التيار بهذا الشكل المتسارع مؤخراً، يؤكد الفرضية السابقة، وإن كان يبقي النتيجة النهائية متوقفة على كيفية حسم الخلاف حول قضية ارتباط "هيئة تحرير الشام" بتنظيم "القاعدة".

مبدئياً، يمكن القول إن مغامرة خطيرة يقدم عليها طرفا الخلاف في حال استمراره. ونظرياً تبدو حسابات الربح والخسارة متوازنة بينهما. وعليه، فإن التهدئة الحالية رسمياً بين "القاعدة" و"هيئة تحرير الشام"، تبدو خياراً تكتيكياً، لا أكثر، خاصة بعد التصعيد الأخير والأشرس بينهما مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2017 بينهما، مع كلمة زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري، التي طالب فيها بعودة "هيئة تحرير الشام" إلى "القاعدة"، ورد المسؤول الشرعي الأول في "الهيئة" عبدالرحيم عطون، على الكلمة، قبل أن يتم الإعلان عن "مبادرة الصلح".

بالنسبة لـ"القاعدة" التي تعيش أصعب مراحلها منذ صعود "تنظيم الدولة"، فإن قيادتها تدرك أن أي صدام مع "هيئة تحرير الشام" الفتية والصاعدة بدورها أيضاً، يعني مغامرة يجب الحساب لها، خاصة وأن الحصانة التي كان يوفرها اسم "القاعدة" ورمزية قادتها لم تعد كافية للسيطرة. هذا، إلى جانب عامل مادي قوي لا يلعب في صالح "القاعدة"، اليوم، وهو حالة الحصار شبه المطبق الذي تعاني منه "القاعدة"، مع انحسار نشاطها المركزي.

وما أن توفر مؤيدون لخيارات الجيل الجديد من الجهادين بين رموز التيار، لم يترددوا خلال العامين الماضيين عن دعم تحرر هذا الجيل من هيمنة المركز، والتخفف من الخطاب التقليدي، والسعي لكسر حواجز النخبوية لصالح الانفتاح. ويشكل هذا عامل ضغط إضافي كبير على قيادة تنظيم "القاعدة".

وهنا لا يعتبر الداعية الشهير، أحد أهم منظري السلفية الجهادية عمر محمود "أبو قتادة الفلسطيني"، الذي أعلن انسحابه من مبادرة الصلح المعلن عنها، سوى أهم شخصيات التيار الذين يدعمون هذه التوجهات. بل تقف إلى جانبه اسماء أخرى أقل أهمية، لكنها معتبرة، مثل المصري طارق عبدالحليم، وإن كان بتحفظ، والكويتيين محمد الحصم وجابر الجلاهمة، اللذين كانا من أشد مؤيدي فك ارتباط "جبهة النصرة" عن "القاعدة" في العام 2016، وغيرهم من الشخصيات الداعمة لتوسيع قاعدة الحركة الجهادية، والتلاقي مع جماعات الإسلام السياسي الأخرى، تحت شعار "جهاد أمة".

لكن ومع إدراك "هيئة تحرير الشام" لأهمية العوامل السابقة في دعم موقفها، فإنها تعي في المقابل مدى خطورة الدخول في مواجهة حاسمة مع "القاعدة"، بعدما أستفادت بشكل كبير من ارتباطها الرسمي أولاً، والمعنوي بعد ذلك به، وخاصة لجهة استقطاب الكوادر، والصراع مع "الدولة الإسلامية" في سوريا. صراع لم يكن لتخرج منه "النصرة" سالمة بلا غطاء "القاعدة" ودعم جميع رموز التيار الجهادي لها، حتى وقت قريب.

وبناء عليه، تعي "الهيئة" احتمالية الانشقاقات التي يمكن أن تواجهها في حال إعلانها جماعة "عاصية" من قبل قيادة "القاعدة"، الأمر الذي سيفقدها جزءاً من التأييد الذي ما زالت تتمتع به لدى أنصار التيار السلفي الجهادي. دعم يعتبر مهماً جداً، رغم أنه معنوي في النهاية، إذ يمكن أن يضعها في مواجهة أخرى، لا فقط مع المنشقين سابقاً عنها، أو حتى المنشقين المحتملين الذين سيشكلون بكل تأكيد فرعاً جديداً لـ"القاعدة" في سوريا، بل وربما أيضاً مع بقية الجماعات الجهادية الأخرى في سوريا، التي لم تندمج في "الهيئة"، لكنها ملتزمة بخط التيار التقليدي.

احتمالات لا يبدو أن "تحرير الشام" مستعدة لها اليوم، لا عسكرياً حيث تخوض مواجهة محدودة، لكنها مفتوحة، في ريف حماة، مع قوات النظام وتنظيم "الدولة"، ولا داخلياً حيث تعاني من تبعات موافقتها على دخول قوات تركية للتمركز في مناطق نفوذها في محافظة إدلب، وهو الخيار القاسي الذي لم يسعفها بعد في إصلاح علاقتها مع الحاضنة الشعبية في مناطق سيطرتها، ولا مع من تبقى من فصائل هناك، بسبب سلسلة الهجمات التي شنتها على هذه الفصائل وخلفت جروحاً يصعب دملها.

وعليه، وبموازاة التهدئة بين الجانبين على الصعيد الرسمي، منذ إطلاق مبادرة الصلح بينهما، فقد لجأ كل منهما إلى تكثيف الخطاب الإعلامي الذي يعزز وجهة نظره، وترك كل طرف لأنصاره مهمة الدعاية لموقفه. هذه المهمة التي تستدعي بطبيعة الحال الأدلة الشرعية والكلامية من أدبيات السلفية الجهادية ورموزها، للتأكيد على تمسك كل منهما بمنهج التيار.

بالنسبة لأنصار قيادة "القاعدة"، فمن السهل ملاحظة تركيزهم خلال الأيام الأخيرة على أهمية "البيعة" وتحريم نقضها، إلى جانب التأكيد على ضرورة التزام الجماعة والحفاظ على نقائها، وعدم الانفتاح العشوائي، وخطورة التعاون مع أي جماعة لا تنسجم في منطلقاتها وأهدافها مع السلفية الجهادية. ناهيك بالطبع عن تحريم التعامل مع أي من الأنظمة والحكومات، في إشارة واضحة للاتفاق الأخير بين "تحرير الشام" والحكومة التركية. وأخيراً وليس آخراً، التلويح المستمر بعصى تصنيف "الهيئة" في خانة تنظيم "الدولة"، بناء على تعاملها مع قضية البيعة لتنظيم "القاعدة".

وإذا كانت النقطة الأخيرة هي أكثر ما يثير حساسية "هيئة تحرير الشام" وأنصارها، فإنها تشغل حيزاً مهماً من معركتهم الإعلامية، التي يركزون فيها على نقض رؤية خصومهم وتهافتها، بإظهار تناقضها تارة أو خطورتها تارة أخرى، والأهم الاعتماد على الأدلة من المصادر نفسها التي يستخدمها أنصار العودة لـ"القاعدة" من أجل تأكيد سلامة موقفهم. فالبيعة، بحسب وجهة نظر فريق "الهيئة"، ليست مطلقة من جانب، ولم تنقضها "تحرير الشام"، بل أحلتها قيادة "القاعدة" منها، وهو ما يتناسب ومصلحة الجهاد والأمة في الوقت الحالي كما يرون، هذه المصلحة التي يجب أن تكون مقدمة على مصلحة التنظيم والاسماء مهما كانت مهمة.

وبحسب هؤلاء أيضاً، فإن "الهيئة" لم تشق الصف، بل إن من يسعى لتشكيل فرع جديد لـ"قاعدة" في سوريا هو من يفعل ذلك، الأمر الذي يهدد المكاسب الكبيرة التي حققتها "تحرير الشام". بل إن أبو محمود الفلسطيني، الناشط المعروف في التيار الجهادي، والتلميذ المقرب من أبي قتادة الفلسطيني، اعتبر أن من يخرج من "الهيئة"، مهما كانت حجته ودوافعه، يعتبر آثماً، كونها "الجماعة المجاهدة الوحيدة المتبقية في أرض الشام التي تقيم الدين وتدفع الصائل، مع ما يصاحب ذلك من بعض الأخطاء والمظالم التي يكون إنكارها من داخل الجماعة..".

لكن أحد المقربين من الأردني سامي العريدي، الذي يُعتبرُ قائد التيار المنشق عن "جبهة النصرة" بسبب انفصالها عن "القاعدة"، وأحد المكافحين الشرسين من أجل عودتها، يرى أن على الطرف الآخر أن "يحفظ لنفسه خط العودة، فما هي إلا أيام بالكثير حتى يفصل الشك باليقين"، في إشارة ربما إلى قرب صدور حكم من القائمين على مبادرة الصلح بين الجانبين. ويبدو  فريق العريدي واثقاً من أن الحكم سيكون بعودة "هيئة تحرير الشام" إلى مظلة "القاعدة". وهو أمر يرى الكثيرون أنه لن يحل المشكلة العميقة، فإيجاد مخرج لأزمة كبيرة من هذا المستوى، لن ينهي الأزمة، التي هي أكبر من مجرد خلاف تنظيمي في النهاية، مهما أراد البعض إظهاره على هذا النحو.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024