الانتفاضة الشيعية كإنبعاث للوطنية العراقية ضد النظام الإيراني

مروان أبي سمرا

الأربعاء 2019/11/06
ما يجري اليوم في العراق ليس أقل من منعطف تاريخي كبير: الشيعة العراقيون يبعثون الوطنية العراقية ويريدون انتزاع العراق من براثن النظام الإيراني.

قبل هذه الانتفاضة التي يشهدها العراق اليوم، واستناداً إلى الإرث "الصدّامي" المدمر، كان نظام الملالي الإيراني وأدواته المحلية قد نجحوا في مضاعفة تفتيت المجتمع العراقي على نحو لم يعرفه يوماً في تاريخه. وخلقوا هوة هائلة وعميقة بين طوائفه، ولا سيما بين الشيعة والسنة، ومن ثم أعادوا تشكيل الشيعة على قاعدة الاستتباع والولاء لإيران ونظامها وشبكاتها.

وكان لنظام الملالي الإيراني الدور الأساسي في هندسة وإنشاء وإدارة نظام الهيمنة الطائفية والنهب والفساد، الذي استحوذ على السلطة والدولة في العراق، اعتماداً على السيطرة على الموارد النفطية وتوزيعها ريوعاً وغنائم على شبكات السلطة والأتباع المحاسيب التي تخضع في مجملها لسلطان الولي الفقيه، ويده اليمنى في العراق وبلاد الشام قاسم سليماني.

ونجح نظام الملالي في تهميش السنة وإقصائهم سياسيا واقتصاديا، بل وفي تطهير بغداد ومدن أخرى من شطر كبير منهم. ثم استطاع في السنوات الأخيرة، لا سيما في 2013 وبعدها، قمع انتفاضتهم التي تمكن من إلباسها لبوسا طائفياً ثم داعشياً، ما سمح له بالتنكيل بهم بعنف ووحشية شبيهة بالوحشية الأسدية في سوريا، فأغرقهم في لجة الخوف والمهانة والصمت.

أما الشيعة فقد نجح في تفتيتهم واستتباعهم وتهميش كل من لا يدينون له بالولاء، بل وقتلهم عندما تدعو الحاجة. وهو أعاد إنشاء القوى السياسية الشيعية على أربعة أركان أو أسس: الولاء أو التبعية لإيران، والطائفية، والزبائنية والفساد السياسي والمالي، والتفتيت والتنافس على الحصص والغنائم. وأنشأ قائد فيلق القدس قاسم سليماني تنظيم الميليشيات الشيعية على قواعد التبعية والطائفية والفساد إياها، واستعملها أدوات لتكريس السيطرة الأمنية على العراق، ولتعميق الهوة الطائفية عبر ممارسة العنف والقمع الطائفي، لا سيما ضد السنة. وتعهدت شبكات المحسوبية والفساد بتوزيع متفاوت لفتات الريوع  والمناصب والوظائف والخدمات على الجماعات الشيعية لاستتباعها وشراء ولائها للنخبة الحاكمة وللنظام وأسياده الإيرانيين.

لقد ظن الولي الفقيه الإيراني أنه، بعد هذا كله، قد أحكم نهائيا سيطرته المديدة على العراق، واطمأن إلى أنه استتبع العراقيين ولا سيما الشيعة منهم إلى غير رجعة.

ولكن الانتفاضة العراقية قامت ونهضت من حيث لم يكن يتوقع أبداً.

ليس السنة المهمشون هم من اشعلوا الثورة وشكلوا مادتها. قام بذلك الشيعة العراقيون في بغداد وفي محافظات العراق الجنوبية وعتباته المقدسة. وهم الذين يشكلون اليوم مادة هذه الانتفاضة ويقودونها على نظام الفساد والتسلط الطائفي الذي أرساه نظام الولي الفقيه وأشرف على هندسته وتنظيم ميليشياته قاسم سليماني.

لقد أدى نظام النهب والفساد في نهاية المطاف إلى تهميش الغالبية الساحقة من الشيعة أيضا وأغرقهم، مع السنة، في مستنقع البطالة والفقر، بينما تمكنت النخب الحاكمة ومحاسيبها من مراكمة ثروات هائلة صدّرت الجزء الأكبر منها إلى بنوك في الخارج. وفي الوقت نفسه، نخر الفساد جميع مؤسسات الدولة التي أصبحت أكثر من أي وقت مضى عاجزة عن تقديم أدنى الخدمات الأساسية للمواطنين، أيّا كانت طائفتهم ومنطقتهم.

لقد نشأ جيل جديد في العراق، لا سيما في الأوساط الشيعية. جيل عاطل عن العمل في أغلبيته، لكنه يعرف جيدا شبكات ومافيات السلطة التي تسيطر على نظام النهب والفساد، كما يدرك بدقة كيف تقف إيران خلف هذا النظام وتديره للسيطرة على العراق. هذا الجيل بشاباته وشبابه لم تكن طبقة الفاسدين وأسيادها في إيران، على ما يبدو، يعرفون عنه شيئاً. لقد فاجأهم هذا الجيل من الشباب الشيعة، بل فاجأ الجميع. فهؤلاء الشباب لم ينتفضوا للمطالبة بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية فحسب (كما يحلو لحسن نصرالله وأسياده أن تكون المطالبة وتقتصر عليها). إنهم خرجوا على الطائفية وأخذوا يرفضونها. وها هم يتصدرون مسار إعادة تشكيل وطنية عراقية عابرة للطوائف. وطنية كان أسياد طهران قد ظنوا أنهم دفنوها إلى غير رجعة واستبدلوها بفتات طوائف يهندس أشلاءها وأسمالها قائد فيلق القدس.

إنهم ينتفضون ويثورون لأنهم يريدون أيضا أن ينتزعوا العراق من براثن نظام الملالي. "نريد وطن"، هو شعار المتظاهرين المنتفضين العراقيين الذين تجمعوا في واحدة من تظاهراتهم يبكون بكاءً مريرا على أغنية "موطني" في صوت المغنية اللبنانية أليسا. كأن بكاءهم يكني عن يتمهم الوطني.

لا غرابة والحال هذه في أن النظام الإيراني وأدواته الأمنية في العراق قد اختارت منذ البداية النهج الأسدي الوحشي في قتل المتظاهرين. فقاسم سليماني الذي يبدو واضحاً أنه يدير غرفة عمليات قمع الانتفاضة في العراق، وضع الرد الأسدي في الأشهر الأولى من الثورة السورية نصب أعين العراقيين. وتبدو هذه الوحشية مضاعفة لأن الانتفاضة العراقية تهدد نظام الولي الفقيه، انطلاقا مما يهوى حسن نصرالله تسميته "البيئة الحاضنة" للهيمنة الإيرانية، أي البيئة الشيعية. هكذا شرعت القوى الأمنية والميليشيات التي تمولها وتديرها طهران، منذ بداية الانتفاضة، بتنفيذ سياسة قتل المتظاهرين عمداً،  فعملت على الدوام على إطلاق الرصاص الحي عليهم كما لو أنها توجه نحوهم خراطيم المياه. وحتى عندما استعملت القنابل المسيلة للدموع، تبين أن تلك القنابل بإمكانها أن تخترق جمجمة المتظاهر وتودي بحياته.

وقد أعلنت منظمة العفو الدولية أن قوات الأمن العراقية استخدمت "أنواعاً لم يسبق لها مثيل" من قنابل الغاز، وزنها 10 أضعاف وزن العبوات العادية، ومصنعة لأغراض عسكرية قتالية. كما أعلنت أن هناك أدلة على استهداف المتظاهرين في رؤوسهم بغرض القتل، وليس لتفريق الجموع. هكذا قتلت القوى الأمنية بالأمس الإثنين في كربلاء وبغداد وحدهما أكثر من عشرة متظاهرين. ومنذ اندلاع الاحتجاجات في بداية أكتوبر في بغداد والمناطق الجنوبية من العراق، قتلت القوى الأمنية والميليشيات التابعة لإيران أكثر من 250 شخصا وأصابت أكثر من 10 آلاف بجروح.

ومن الواضح أن إيران تتجه أكثر فأكثر إلى استعمال الوحشية على أوسع نطاق لإخماد الانتفاضة المشتعلة في ما تحسبه حديقتها الأمامية اللصيقة. فتصريحات الولي الفقيه الإيراني علي خامنئي قبل أيام بأن الاحتجاجات في العراق (ولبنان) هي "أعمال شغب تديرها أميركا والكيان الصهيوني"، كانت دعوة واضحة إلى مضاعفة القمع والقتل. وتبعه أيضاً خطيب الجمعة في طهران وحيد كرماني، فاستعار من حسن نصرالله وصفه الشيعة اللبنانيين الخارجين على سلطانه، فقال إن ملايين المتظاهرين العراقيين ضد الظلم والفساد هم "شيعة الإنكليز".

وفهم العراقيون جيدا ما يفعله الإيرانيون، فاشتعلت ساحات التظاهر بشعارات معادية لإيران، وأحراق العلم الإيراني وصور قاسم سليماني وخامنئي الذي ضربت صوره بالأحذية. وكانت ذروة هذا الغضب العراقي في كربلاء في اليومين الماضيين، حيث هاجم المتظاهرون القنصلية الإيرانية وحاصروها وحاولوا احتلالها وحرقها. وبالأمس تمكن المحتجون في كربلاء من إنزال العلم الإيراني، ورفعوا مكانه على مبنى القنصلية الأعلام العراقية، وذلك على وقع هتافات حماسية وطنية تندد بتدخل إيران في الشؤون العراقية، ووقوفها وراء نظام الفساد في العراق.

وكان قطع الانترنت بالأمس في مناطق العراق كلها باستثناء كردستان، مؤشراً على تصاعد القمع. ورأى الناشطون ومنظمات حقوق الإنسان أن هذا التعتيم الرقمي قد يكون للتغطية على مجازر قد ترتكبها القوى الأمنية والميليشيات في حق المتظاهرين والمعتصمين في الساحات العراقية.

فإلى أي حد ستسطيع إيران الذهاب في تنفيذ السيناريو الأسدي الوحشي في العراق؟ وإلى أي حد يمتد هذا السيناريو ليشمل لبنان وانتفاضته التي اعتبرها خامنئي أيضا صنيعة أيدٍ أميركية وصهيونية؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024