الشعبويون ضمن اللوحة.. في سوريا أيضاً!

موفق نيربية

الأحد 2019/03/31
مع تكريس حالة الفشل والخيبة التي جاءت بعد دمار ودماء وتشرّد، وبعد تخلى العالم عن واجباته الإنسانية فيها، وعن جديته في المساعدة على إيجاد حل سياسي حقيقي، ازدهرت "الشعبوية" في سوريا. شعبوية ذات طَعم سوري تلقى دعماً ورعاية خارجيتين، وتلتقي مع حلم طاغٍ باستعادة طموح الثورة في عامها الأول، وتحاول تنظيم نفسها عن طريق اجتماعات ودعوات إلى مؤتمرات وطنية نسمع عنها كل يوم، وتحطيم بنى المعارضة الرسمية التي قادت إلى هذه الخيبة. شعبوية تخلط الغضب مع العدمية، والخبط خبطَ عشواء.

في الولايات المتحدة، البرازيل، فنزويلا، بوليفيا، أوروبا من أدناها إلى أقصاها، الهند وتايلند، وغيرها، تزدهر الشعبوية أيضاً بأشكال مختلفة، فتأكل من أصوات وشعبية يمين الوسط، وتكاد تنهي يسار الوسط. نحن، السوريين، جزء من هذا العالم ومن إحدى أكثر بؤره تَفجُّراً، ولهذا نبدو أجدر بالسير في ذلك الدرب والإمعان فيه.

يبدو للعيان أن شرارة تلك "النهضة" الشعبوية دولياً ترتبط بالعولمة والكساد الاقتصادي وتفاقم الفوارق الاجتماعية ومواضيع الهجرة، بعضها أو كلها، مع تنويعات أخرى أيضاً، ولهذا كله انعكاسات هنا: فهنالك "عولمة" للحرب السورية التي كانت ثورة، وهنالك فقر وبطالة وعطلة دراسية مفتوحة في بعض المناطق، وتشرّد واسع النطاق محلياً وخارجياً. هنالك أيضاً خيبة وإحباط وفشل داهم للدولة وهزيمة للنخب على ألوانها، وربما موت أو سجن، أو ارتهان وعجز ومراوحة في المكان، فمن حقنا، إذن، أن نحظى بحصتنا الوافية من الشعبوية والشعبويين.

الشعبوية ظاهرة في السياسة، مثنوية الطبيعة والمنطق، تتصور العالم ميداناً للخير أو الشر، للجمهور أو النخبة الفاسدة، للشعب أو "المؤسسة"، للمخلصين أو الخونة، للكفار أو المؤمنين، للمتخاذلين أو المقدامين الذين لا يهابون شيئاً ولا يحسبون حسابه، وأحياناً للمتفائلين والمتشائمين.

الشعبوية خصوصاً تعادي "النخبة" في كل اختصاصات تلك النخبة. "حان الوقت لتحرير الشعب الفرنسي من نخبة متغطرسة" تقول ماري لوبان. ويقول دونالد ترامب: "يريد الناس استعادة السيطرة على حياتهم وحياة عائلاتهم"، في حين قال رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان "لقد فشلت النخبة الأوروبية، ورمز ذلك الفشل هو المفوضية الأوروبية". أساس تلك الهجمة الشاملة هو التخلص من فساد النخب وانحطاطها، وفي ذلك بعض الحق الذي لا يمكن إنكاره بتاتاً، ولكنه يقود إلى الخراب والفوضى أيضاً. لا يمكن استيعاب استمرار الاجتماع البشري من دون النخب المختصة، وهذا شكل مختلف من الأناركية يحمل شحنتها التغييرية من دون بديل. رغم ذلك، تستحق النخب الفاسدة والمستقرة على انعزالها عقوبة وصدمة تدفعها إلى تجديد وتغيير بنيتها وأساليبها.

الأمر ذو الدلالة هنا هو مركزية التعارض مع النخبة في مفهوم الشعبوية وممارستها. ولذلك سحره وجاذبيته!

ابتدأ الأمر لدينا، نحن السوريين، بالتشهير بما يُسمى "معارضة الفنادق"، في مواجهة "معارضة الخنادق"، أولئك الذين "يدفعون حياتهم يومياً ويتحملون كل مغارم الثورة". واعتمد في مساره على التفريق ما بين "الداخل" و"الخارج"، مع طقوس تكريس وتقديس للداخل، وكذلك للشارع، وتحويلها إلى سوط يلاحق الآخرين بضرباته. وأخذت تظهر بعض الهجمات المباشرة والشرسة على "النخبة"، وتركز بصوتٍ عالٍ على التفريق بين "ثوار" و"معارضين"، وعلى الكثير الذي يجمع بين المعارضة والنظام.

وفي كل تمظهرات الشعبوية الجديدة خصوصاً، يظهر الميل القوي إلى الوقوف في وجه "المؤسسة"، وهذا واضح بشكل ممتاز في الولايات المتحدة. تقوم هذه المؤسسة- الرمز على التوافق الضمني بين الأحزاب الكبرى على قواعد اللعب، وحدود المصالح الجامعة. ليس من مؤسسة إطلاقاً في سوريا، ورغم ذلك يجتهد شعبويوها في ربط المعارضة بالنظام ولو بشكل غير مباشر أحياناً، وهم في ساعات عملهم اليومية، يشتغلون عملياً بالمعارضة، أكثر بكثير مما يشتغلون وينشغلون بالنظام.

هذا المسار وعر، أدرك ذلك. ولكن أحداً ينبغي أن يتحدث. ليس الشعبويون بخصم يمكن الحوار معه بسهولة ويسر، فلديه من الأدوات والآليات ما لا يخضع لضوابط، لا فوق الحزام ولا تحته. تتلبّسهم "المؤامراتية" ويتلّبسونها، سلاحاً فولاذياً لا يفارق اليد. حدث ذلك مثلاً عند استخدام تعبير "الواقعية السياسية" من قبل بعض السياسيين، وطبعاً لا نستطيع تبرئتهم جميعاً من روح التخاذل أو الارتهان أو غير ذلك، ولكن الهجوم على المفهوم نفسه أصبح سائداً بحيث أخذ الكثيرون يحسبونه عنواناً للخيانة أو التآمر.

للتشكيك واستسهال توزيع الاتهامات شعبية لدى الشعبويين، ولوم الخصوم المفترضين على كل ظاهرة أو على كل خسارة أداة ثابتة الاستخدام لديهم. يبدأ الأمر باللوم، ثم ينزلق بسرعة إلى التخوين والتكفير، لأن "الخيانة ليست وجهة نظر"، وبالتالي فإن وجهة النظر الأخرى "خيانة" بالطبع. يستغرب المرء الحديث مثلاً عن المعارض و"الثورجي"، ولا أعرف من قام بنحت هذه المفردة الأخيرة التي طالما كانت في المتداول تعني "من يدعي الثورية" أو لعله "منحبكجي" الثورة، لتظهر الآن وتعني "الثوري" الحقيقي المخلص المتفاني، لديهم.

والناشطون، الناشطون على طبقتين: تشتغل إحداهما كوكيل تحريك وإثارة، وتستخدم كافة أساليب التحريض، والتضخيم، والإعلام الاجتماعي حديثاً، والتصوير والتسجيل، وغرف الواتس أب، لتسويق فكرة أو سياسة، وخصوصاً للتشهير بطرف أو مجموعة. يقوم عمل هؤلاء كثيراً على إعادة تمثيل وتصوير المشاهد واستدعائها من التاريخ "الجميل" المنصرم، وهي ستبدو للناظرين بالطبع مشاهد من الكوميديا في هذه الحالة، ولكن لا فرق! وفي أزمنة الخيبة، يكون من السهل حشد بعض مجاميع الغاضبين على إهمالهم وتهميشهم، الذي تمارسه بإمعانٍ نخبة تتصدر المشهد وتتمسك بحقها في تصدره.

الطبقة الثانية تتألف من سياسيين محترفين، ونشطاء قياديين إلى هذا الحد أو ذاك. هؤلاء يقومون بتأمين الدعم اللازم من دولة صاحبة مصلحة، يتبادلون معها مصلحتهم، ويقومون أيضاً بأدلجة السياسة الشعبوية وتنظيم حزبها أو تحالفاتها، ووضع خططها. لا غضاضة أبداً في أن يتبرأ هؤلاء من أولئك أحياناً، حين يتطلب الأمر ذلك. وحين يضطر هؤلاء إلى تمرير ما لا يحبونه، ويحاولون تلغيمه كما فعل البعض حين اضطر إلى الموافقة على تأسيس "الائتلاف الوطني"، تمهيداً للعملية السياسية التي كانت ستقوم على بيان ومؤتمر جنيف الذي انعقد قبل ذلك بأربعة أشهر، ولكن مع وضع جملة في اتفاق التأسيس تقول إن الائتلاف "يلتزم بعدم الدخول بأي حوار أو مفاوضات مع النظام"، ثم قاموا بحركة احتجاج وانسحاب قوية من الائتلاف في مطلع عام ٢٠١٤، احتجاجاً على قبوله الدخول في عملية جنيف السياسية وفق "الإملاءات الخارجية" في حين كانوا، هم أنفسهم، منسجمين تماماً مع سياسة طرف إقليمي يناسبه مثل هذا الموقف أكثر، في حسابات مصالحه وصراعاته.

يذكر الشيوخ من بيننا شيئاً من هذا انتشر كالنار في الهشيم بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧، وبقيادة القادة المهزومين أنفسهم، حين تم تبني سياسة شعبوية في مؤتمر قمة الخرطوم، قائمة على اللاءات الثلاثة "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف"، وكانت كل الشعبوية الجارفة بعدها والتي تم تحميلها على الإيديولوجيات السائدة حينها من قومية ويسارية وإسلامية، مع الذهاب بها إلى الحدود القصوى، التي خربت بيتنا لاحقاً.

رغم ذلك، لا تقوم الشعبوية السورية الحالية على فراغ، كما أخواتها في كل العالم. فهنالك إهمال وتهميش للسوريين عن لعب أي دور في مسألتهم أو عن تمثيلهم كما ينبغي، وهنالك تفسخ إلى هذا الحد أو ذاك في المعارضة الرسمية، وكذلك حالة من الحرمان والتشتت والإحباط لا مثيل لها لدى أي شعب في العالم. فلنا أن نذوق حصتنا من هذه الوليمة، ونغوص في مصيرنا حتى الثمالة، ربما!

لعلّ من أهم ما في ظاهرة الشعبوية السورية سهولة التنبؤ بردود أصحابها وسلوكهم، انطلاقاً، على الأقل، من خبرة عقودٍ مع شعبوية النظام التي تبقى، رغم استخدامها للقمع والجلد أحياناً، مسليةً قليلاً، حين لا تبعث على الملل.

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024