عن خامنئي ونصرالله وسليماني: هل تجفّف الحرائق النهر؟

موفق نيربية

الإثنين 2019/11/04

أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أسبوع على "تويتر" أن هنالك حدثاِ مهماً قد حصل، ليعلن بعد ساعات، في مؤتمر صحافي رنان، مقتل البغدادي. وبنهاية البغدادي، المشرّد سراً وحيداً وبعيداً عن أماكن قوته، يمكن الحديث عن مرحلة جديدة بالفعل. لقد انتصر الأميركيون وحلفاؤهم على "داعش"، وسوف تكون هنالك صورة أخرى غالباً أكثر سريةً وإرهاباً.

سوف يعاني "التطرّف السني" بوجهه الأبشع هذا من ضربة كبيرة وربما قاصمة. ولن يكون نافلاً التساؤل عن مآلات "التطرف الشيعي"، الوجه الآخر للإرهاب في المنطقة، ذلك الذي يتمركز في طهران، ويمد العديد من أذرعه بعيداً ليصل إلى سوريا ولبنان واليمن، حيث لم تكن الأرض أرضه سابقاً.

في ذلك يستند نظام الوليّ الفقيه في طهران إلى قاعدة وازنة القوة في العراق، فيها كتلة بشرية شيعية هي الأبرز، وفيها ميليشيات في إطار ما يُسمّى بالحشد الشعبي، لنواتها الصلبة صلات مباشرة واستراتيجية في طهران. حيث قائد فيلق القدس سليماني يدِ المرشد الأعلى العنيفة في خارج البلاد، الذي يتحرك بحرية في الساحات المذكورة كلها؛ حين يكون في بلدٍ منها، يكون ظلّ المرشد الأعلى حاضراً، بوجهه المدرع الضارب.

في منتصف القرن العشرين، كانت باكستان نتيجة لنجاح محمد علي جناح في تسويق "نظرية القوميتين" بين مسلمي الهند أو بعضهم. اعتمد في ذلك على مركزية الدين في بناء الأمة المتمايزة. حديثاً تخيّم على قسم رئيس من السياسات الصربية أفكار قريبة من ذلك، بل أكثر خيالاً. بالنسبة لأولئك تشكل كوسوفو "أورشليم الصرب"، التي يتمركز حولها كل شيء حتى يُعاد بناء الهيكل فيها، والتي من دونها ينعدم وجود الأمة الصربية. ومن أجل ذلك ينشدون تراتيل تروي حكاية الأمير لازار ومعركة "أرض الطيور السوداء" في القرن الرابع عشر، حين انهزم الصرب أمام العثمانيين. ويرون لذلك حتى في القرن الحادي والعشرين، أنه على تلك الأرض والتاريخ، يتعلق الوجود والمستقبل، بحماية وإلهام إلهيين، ليتحقق البعث من جديد، بالرسالة الخالدة التي يحملها.

الحروب الدينية في أوروبا أيضاً كانت على وقع معاهدة ويستفاليا، لذلك كانت تمزج القومي بالديني، من أجل خلق الحافز الأسمى لممارسة العنف ورسم الحدود أو تعديلها أو إزالتها بأفضل  شكلٍ يناسب الفئة السائدة، أو التي تطمح للسيادة.

القومية و"الوطنية" المسلحة بالدين، هي الخيار الأقصى والأكثر عنفاً لتحقيق الأهداف والطموحات السياسية. في منطقتنا، يمثل النظام الإيراني هذا الوجه بأبشع أشكاله، المتوالدة يوماً بعد يوم. ولعل توالدها اللاهث تعبير عن أزمة ذلك الخيار وحامليه، وأزمة الإيديولوجيا المسلحة التي تسوقها.

مؤخراً، صرح الناطق باسم المرجع السيستاني في العراق بشكل صريح أكثر من أي مرة أخرى، ليقول برفض تدخل "القوى الإقليمية والدولية"، ليتلقف المتظاهرون كلامه، ويرفعوا لافتاتٍ ضخمة تفسر ما قالته المرجعية مباشرة "يعني إيران". كذلك ليتقدم أصحاب العمائم إلى الصف الأول من التظاهرات، ويتدافعوا لحمل تلك الرايات المذكورة. هنالك ظاهرة جديدة إذاً، وحالة وحدة وطنية غير مسبوقة، تطالب برفع اليد الإيرانية بشكلها الإرهابي عن العراق، الذي يكاد يتفكك ويضمحل تحت ضرباتها وتدخلاتها.

وربما كان تركيز الناس بعد تجاربهم الطويلة التي خالطها الدم على "العراق" كهوية أولى. والحداثة التي تنبذ الاستبداد والفساد والفرقة، هو ما يجعل من الحراك الحالي ثورة وتجديداً جوهرياً. فهنالك فرق إسلامية تختلف بين السنة والشيعة، وفرق قومية تختلف بين العرب والكرد. وهنالك هامش مشترك طالما كانت تأكله الحيرة في أيام عصبية صدام القومية العربية، وعصبية النظام الحاكم في طهران بفارسيتها وشيعيتها. في ذلك كان تداخل الهويتين قوياً في النجف، حيث كثيراً ما تكون المرجعيات من أصول فارسية، وقد أقامت بجوار أضرحة الأئمة. وفي العقود السابقة، كانت تظهر الميول القومية أحياناً، وعرفنا المراجع من مثل بحر العلوم وكاشف الغطاء ومحسن الحكيم والصدرين، الذين كانوا في نشاطهم يعكسون ذلك التملّص من الهيمنة الفارسية، ويقاربون بأشكال متباينة موضوعتي العروبة والمواطنة. عرفنا أيضاً محمد حسين فضل الله، الذي اعتبره خامنئي خطراً منافساً له بالقوة والأثر، فسلط عليه رجاله في حزب الله بالتشهير والأذى حتى انعزل إلى يوم مات كمداً وحسرة. حالياً، يتيح خيار الانتماء للعراق إمكانية لحلّ الأزمة، ويمثّل السيستاني بعراقيته حتى الآن رمزاً لذلك الخيار.

ويوماً بعد يوم، تزداد حدّة ردود الفعل والقرارات شبه الحربية في طهران. هنالك يقف في القمة خليفة الخميني صاحب الثورة الإسلامية، وأمين سره الأقرب خامنئي، الذي تملكته روح الفرد الملهم المسلح بالتفضيل الإلهي، ودخل من طريق تسمية الولي الفقيه ليعمل على لجم كل من يعارضه، في صفوف شيعة إيران وشيعة العالم خصوصاً. وأتاح له الصراع العربي الإسرائيلي آليات قوية ومتماسكة من أجل ذلك الهدف. أصبح استمرار ذلك الصراع وحيويته من بين أسباب حياة ذلك النظام وقوته. في مشروع حزب الله غرفة عمليات ذلك الخط، أو غرفته الأكثر أهمية الآن، بعد ظهور الحوثيين في اليمن، وميليشيات متنوعة في سوريا.

قام حزب الله على فكرة احتكار "الصراع مع العدو" وتسخينه إلى الحد الأقصى. ومن أجل ذلك كان الاغتيال هو التمهيد الأول لتسلطه في لبنان ثم التصفية والتفكيك لكل البنى الوطنية التي تعتبر الصراع مع إسرائيل مركزياً. تلك البنى كانت في تركيبها يسارية أيضاً إضافة إلى وطنيتها. وهذا يمزج البعد الديني بشكل آلي مع القومي، ويفصله أيضاً حين يستلزم الأمر ذلك. فحزب الله في الخط الأول ضد العدو للدفاع عن العروبة والإسلام معاً، يقدّم أحدهما أو الآخر إلى الواجهة حسب واقع الحال، مع الانتباه أكثر إلى ضرورة توجيه النظر إلى القاعدة الأولى في طهران. المهم هو استمرار الصراع وتأجيجه، ومزارع شبعا أرض لبنانية محتلة، ولو كرهت الأمم المتحدة. احتلالها ولبنانيتها هما مناط شرعية حزب الله: المقاومة.

لذلك كله، ساحتان رئيستان هما في هذه الأيام: في العراق ولبنان. وهما ساحة واحدة في الحقيقة. فكلاهما، إضافة إلى ما يجري في سوريا واليمن وغير مكان، موقعان لممارسة الطغيان الذي يقوده خامنئي، وجناحاه سليماني ونصرالله بدروع وصواريخ ونيران لم تظهر حتى الآن، لأن الشعبين يعرفان أن الحراك السلمي الجامع وحده القادر على هزيمة الوحش المسلّح الآتي من ظلام التاريخ ودمائه. فاستثمار القومية وحده قد يكون مولِّداً للعنف، واستثمار الدين وحده  أيضاً قد يكون مولّداً للعنف، واستثمار يمزج بينهما قد يكون جسراً محتوماً إلى نهر من الدم والدمار.

صحيح أن ذلك الخط محظوظ بحلفاء طارئين يتمثلون في لبنان بالتيار الوطني الحر وشراسة البنية الطائفية ودستور الطائف؛ وفي العراق بشريحة جديدة من الفاسدين الشرهين استطاعت تفخيخ الحزب الشيعي الكبير( حزب الدعوة- أنصار محمد باقر الصدر) وتقسيمه وإغوائه، وبسلاح الميليشيات التي أسس بعضها الطموح الإيراني ذاته، وشدّ من أزرها وحمى توسّعها ما فعلته "داعش" وكل أشكال التطرف وبقايا الطغيان القديم. وصحيح أيضاً أن الوضع دقيق ويحتمل كلّ الاحتمالات، مع ابتسامة ساخرة تستهين بكل ما عداها على وجهي نصرالله وسليماني.. إلا أن أملنا موجود مع الربيع الحالي، ويتوالد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024