أوروبا.. حصن السوريين الأخير؟

موفق نيربية

الثلاثاء 2019/07/16
بعد احتجاز ناقلة النفط العملاقة "غريس-1" أثناء عبورها مضيق جبل طارق، بمساعدة جنود البحرية البريطانيين، قال رئيس حكومة جبل طارق إن ما دفع لهذا الإجراء هو الاشتباه بأن الناقلة تحمل نفطاً إلى مصفاة بانياس المشمولة بالعقوبات الأوروبية. وبعد ذلك، استرخت خيوط توتر المشكلة، وقيل بإن الناقلة يمكن تحريرها، إذا تم تقديم ضمانات بأنها لن تتوجه إلى سوريا.

بغض النظر عن مدى دقة "العقوبات" وكيف تؤذي الناس أحياناً أكثر من النظام ذاته، وبغض النظر مؤقتاً عن احتمالات تفاعل هذه الأزمة وما تضيفه إلى التوتر القائم مع إيران، فأن تستظل بريطانيا بالاتحاد الأوروبي في زمان البريكسيت، ذلك يدفع إلى بعض الدهشة، رغم أنها عملياً ما زالت في الاتحاد الأوروبي ولم تستكمل إجراءات خروجها منه.

وللحق، فإن الموقف الأوروبي بتنويعاته المختلفة، يكاد يكون الأكثر حضوراً في القضية السورية، وبشكل إيجابي غالباً. ولعلّ الوحدة الأوروبية في سياقاتها لا تعكس المصالح المشتركة وحدها، بل تتيح أيضاً للقيم التي قامت عليها أوروبا الحديثة أن تلعب دوراً موحداً أكبر من مجموع ما تلعبه تلك القيم في البلدان الأوروبية منفردة.

فقد تهاوت بؤر دعم الثورة السورية إقليمياً على انفراد واجتماع، بطريقة مزرية وفاضحة. وربما نستطيع إيجاد الأعذار "لأشقائنا" لانشغالاتهم الأكثر حساسية على كياناتهم، ما بين حرب اليمن ومركزية التناقض مع إيران وهموم الإخوان المسلمين- أكثر مما يجب أو أقل مما يجب- إضافة إلى الأزمة الخليجية وحصار قطر وجريمة خاشقجي- كأداة صراع وليس كانتهاك خطير وجنائي لحق الرأي والصحافة- وكذلك المواقف من الانقسام الليبي العمودي والتدخلات فيه على الجانبين، وانتفاضتي السودان والجزائر، ومسار السلطة المصرية مع خصومها من الإخوان. ومن جهة أخرى اهتمام تركيا بأمنها القومي وما يبدو من تعارض متطلباته مع مصالح السوريين المباشرة أو طموحاتهم.

لذلك أصبح حجم الحدث السوري المثير للاهتمام أكبر بكثير من السابق. فلا يمكن لغارات جوية أو مجازر متفرقة أو قصف واستهداف لمستشفيات أو منشآت مدنية أن تدفع الإعلام والقيادات الإقليمية للتوقف عندها، إلا إذا سبقهم رد فعل واضح وكبير في إعلام الغرب أو لدى حكوماته.

كما أن هنالك أفراحاً مكتومة بعلنية الدور الإسرائيلي والعلاقات المتبادلة، لأسباب "مبدئية" وأخرى تتعلق بالخصومة مع الولي الفقيه المسلّح حتى العظم، وثالثة نابعة من تبرّم من هذه الروابط الإقليمية القومية أو الدينية التي لا تأتي إلا بالصداع.

ولا يمكن التعويل على أي موقف روسي مفيد حتى الآن، ما دامت إدارة بوتين لا ترى إلا فوائدها في اختبار آسلحتها وتطويرها ومبيعاتها الحالية والمستقبلية، وكذلك صراعها لاستعادة مقعدها في عالم ثنائي القطبية تحلم به، ومن ثم في "أهمية وضرورة" أن تفرض الحكومة الشرعية سلطتها على كامل ترابها الوطني على حدّ تعبير روسي مكرر، واستثمار مسار آستانة على الخط التركي حتى آخر قطرة.

كما لا يمكن التنبؤ على الأقل بالسياسة الأميركية في زمن رئيسها الحالي وتقلباته ومفاجآت سياساته الخارجية، أيضاً باختصار. فيبقى لدينا تقليب حالتنا مع الأوروبيين، حالتهم الداخلية أيضاً في ما يهم السوريين وقضيتهم.

على الرغم من الاتفاق الموقع بين سوريا والاتحاد الأوروبي منذ عام 1977، إلا أن تلمّس السوريين المباشر للاهتمام الأوروبي لم يتزايد بشكل نوعي إلا بالتوازي مع ربيع دمشق. آنذاك تداخلت المشاريع الأوروبية مع حيوية المعارضة السورية المنتعشة، وكان عنوانها الرئيس "الشراكة الأوروبية" في البحث عن اتفاقات استراتيجية تخدم الاقتصاد السوري بالتشابك مع إصلاحات كان الأوروبيون يرون ألّا مناص منها، وتحاول السلطات السورية أن تتلافاها وتركّز على ما يمكن من تدفقات مالية وشراكات تجارية تعود بالفائدة على الطبقة الليبرالية الجديدة التي جاء بها بشار الأسد بالولادة من خاصرة فساد الطبقة السائدة أيام أبيه، الدكتاتور الأكبر.

تم توقيع متردد لاتفاقيتين في 2004 و2009، وتم تجميدهما في عام الثورة الأول 2011. بعد ذلك، يمكن إجمال الاستراتيجية الأوروبية تجاه سوريا بالنقاط التالية، كما وردت في الوثيقة الصادرة في نيسان 2017 والمصادق عليها من المجلس الأوروبي:

1- إنهاء الحرب من خلال انتقال سياسي حقيقي.
2- دعم انتقال سياسي شامل وذي معنى في سوريا.
3- إنقاذ حياة الناس بتأمين الحاجات الإنسانية للفئات الأكثر ضعفاً.
4- دعم الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير.
5- الدفع باتجاه المساءلة عن جرائم الحرب.
6- تشجيع التسامح بين السكان وفي المجتمع السوري.

وفي ما يخص الأسد، كان  المجلس الأوروبي يؤكد دائماً على أهمية مواجهة "الأسباب الجذرية" لكل الظواهر اللاحقة وخصوصاً الإرهاب وتناميه. في "استنتاجات المجلس" لاستراتيجيته في عام 2015، قال إنه "لا يمكن أن يكون في سوريا سلام دائم في ظل القيادة الحالية"، وغيّر ذلك في استنتاجاته عام 2017 ليقول إنه "لا يمكن أن يكون هنالك سلام دائم في سوريا في ظل النظام الحالي". وفي الحقيقة لا أعرف تماماً إن كان هذا تطوراً إيجابياً أم سلبياً، ولكنه ليس سيئاً في جميع الأحوال. ولم تصدر "استنتاجات" أخرى بعد ذلك حتى الآن، ولكن بيان الممثلة العليا للسياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني العام الماضي بمناسبة ذكرى اندلاع الثورة السورية، أعاد التأكيد على كل المضامين السابقة، وعلى "أن مصير سوريا يكمن في السلام والديموقراطية والمواطنة المتساوية". وكان بيانها ذلك وقتها بموافقة ليس دول الاتحاد الأوروبي وحدها  بل مع الدول المرشحة لعضويته وآيسلندا والنرويج أيضاً.

قدم الاتحاد الأوروبي أكثر من 17 مليار يورو لمساعدة السوريين، وكانت حصته الثلثين من تعهدات التبرع في مؤتمر بروكسل الذي انعقد برئاسة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والذي تعهد بتقديم 8.3 مليار للهدف نفسه وخلال عام 2019 وما يليه.

يشكل الثلاثي القوي (فرنسا- بريطانيا- ألمانيا) أساس الموقف الصلب في الاتحاد الأوروبي، في حين تحاول دول من جنوب وشرق أوروبا التملص والتململ تحت الشعار الضمني "الحل موجود.. الحل هو الأسد". وأهم ملاحظة هنا هي أنه يمكن تتبع آثار دعم النظام في حكومات الدول التي برزت فيها القوى الشعبوية، مثل إيطاليا خصوصاً ثم النمسا وهنغاريا وبولندا. هذه الدول- بما فيها إيطاليا- لا تصل إلى حد ممارسة الفيتو على قرارات وسياسات الاتحاد، خشية من العزلة والنتائج المختلفة، ولكنها تحاول التملص باستمرار، كما فعلت بولندا بإرسال نائب وزير خارجيتها إلى دمشق في أغسطس/آب الماضي، وتبرع باسم حكومته لتأمين المسكن لمئة عائلة عادت إلى سوريا من الملاجئ في الخارج!

في السياسة الأوروبية، يُلاحظ التركيز على ما هو جوهري واستراتيجي، كالعقوبات المتلاحقة الأنفاس والخطى، والمحاسبة والملاحقة والمحاكمة، وربط إعادة الإعمار بالانتقال السياسي، والمعيارية وكذلك ربط أي طرح للانتخابات بالبيئة الآمنة اللازمة. وبمثل ذلك الخط، يمكن الحكم على الموقف الأوروبي بأنه ما زال حصيناً وحريصاً على السوريين، في جوهر الأمر.

ولكن مسألة اللاجئين تضغط باستمرار وثبات، وهي جبهة متقدمة متحركة، لا تخيف وترعب، ولكنها مصدر للمفاجآت المزعجة في غير وقتها!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024