"بر الدناكل" للغربي عمران...تاريخ اليمن السياسي عبر نساء "شنوق"

المدن - ثقافة

الخميس 2021/10/07
صدرت عن هاشيت انطوان رواية ""بر الدناكل" للروائي اليمني الغربي عمران... وجاء في تعريف الرواية:

تتكشّف حياة شنوق، هذا الرجل الغريب، الغامض، أمامنا من خلال النساء في حياته. ومن خلالهنّ تستعرض الرواية محطّات من تاريخ اليمن السياسي ممّا قبل الوحدة ثمّ الوحدة ثمّ الانفصال مجدّدًا، ثمّ انتصار صالح على جماعة البيض في الشمال والوحدة مجدّدًا، لنصل إلى سرد الراوي فصولًا حديثة من تاريخ اليمن، ولا سيّما صعود الحوثيين ومحاربتهم لجماعة النظام.
يعيش شنوق وحده في عتمة منزله، خوفًا من ملاحقة النظام له بسبب نشاطه السياسي السابق. يسمح فقط لغزال، العشرينية التي حوّلتها ظروف حياتها الصعبة إلى فتاة هوى، بزيارته. لا صديق له غير إمام المسجد المتزوّج بالشريفة صاحبة المبنى حيث يقطن.
نتعرّف إلى سيرة شنوق من خلال رسائل يتبادلها مع شخص سمّى نفسه adel على فايسبوك، لنكتشف لاحقاً أنّها ليست سوى حبيبته البندرية التي كان يظنّ أنّها قُتلت في الثمانينات.
بين استعادة أحداث الماضي عبر الرسائل مع البندرية والحوارات مع غزال، ومن خلال مسيرة البطل الشخصية وقصصه وتنقّلاته هرباً من جميع الأطراف حتى حلمه بالهجرة، فهل ينجح في الهروب؟

مقطع من الرواية:
ليلة بعد أخرى، يعود إلى رسالتها الأخيرة، تلك التفاصيل الصغيرة تزعزع قناعته بأنّها لم تقتل، لكنّه ظلّ يقاوم الردّ عليها، هو بحاجة إلى وقت ليزيح قناعة أثقلت روحه لعقود ثلاثة، ظلّ على موقفه بعدم الردّ، حتى وجد نفسه ذات مساء يرقن وكأنّه مسيّر، أو كأنّه في حلبة صراع. «مهما أوردت من تفاصيل تظنّين أنّها مقنعة، فأنا غير متقبّل أنّ الأموات يُبعثون. بدوري، أتمنّى لو تقرئين صحف حرب 94، تحديدًا أعداد شهر أغسطس، التي أوردت جداول قتلى دخول قوّات الشرعية مدينة عدن. وكان اسم البندرية وشقيقها جمال وصغرى أخواتها ضمن تلك الأسماء. هي لم تمت بداخلي. ولم أبحث عن مبرّرٍ لنسيانها. فأنا لم أنسها. فقط لم أتوقّع يومًا أن تراسلني متوفّاة. فإن كنت تجلّينها فاتركي العبث بها وبي!».
«لا يهمني هذيانك، فقد عرفتك معاندًا حدّ التطرّف، وما يهمّني هو أنّني وجدتك، وأنّك بخير. لا أريد منك شيئًا، فقط لأنّني أمرّ بظروف صعبة بعدما أقعدني مرض شلّ حركتي، فلا أستطيع التحرّك إلّا على عربة. وهذه الحرب الظالمة على اليمن جعلتني أكثر مرضًا وقلقًا، لذلك تصيبني نشرات الأخبار بالرعب.
آمل أن ألتقي بك يومًا بعدما تأكّدت من أنّك ما زلت على قيد الحياة، فنسير معًا في أزقة صنعاء التي أعشقها وأخاف عليها من الدمار. أرجوك حدّثني عن وضعها. هل تضرّرت؟ حدّثني عن قوس باب اليمن الملوّنة حجارته، الذي كان يشعرني حين أعبره باحتضانه لي، وهل ما زالت روائح التوابل في السوق القديم؟ حدّثني عن صخب المارّة عندك. سكون الأزقّة ليلًا والوجوه المستبشرة وهي تسير في دروب الصباح. الزخارف التي رأيناها معًا من أسطح سمسرة النحاس، نزل العثمانيين القديم. دور الأحياء العتيقة وقد احتشدت متجاورة كأنّها في عرس جماعي. منارات الجامع المقدّس المشرئبّة نحو السماء. دار الذهب بعلوّها الباهر. حدّثني عن حمّاماتها التركية الجماعية، مطاعمها ومقاهيها! أرجوك جُلْ وتسكّع في ظلالها من أجلي، واترك لروحك أن تصلّي على أرصفة أحجارها العتيقة، ولعينيك أن تبتهلا في بياض قبابها وتغتسلا بدفء رذاذ أمطارها، زرها مرّة، وصلِّ فيها لأجلي، لأطمئنّ أنّها غلبت الحرب».
شعر بدموع عينيه تنساب. أيقظته كلماتها. وكأنّه يسمع صدى صوتها، ذلك الصوت المحبّب إليه، ليتراءى له أنّ ظلمات روحه تعبق بألوان لم يرها من قبل، ظنّ أنّه الجنون. أعاد قراءة رسالتها، ثمّ أخذ يرقن «حتى لو كنت البندرية، فأنا بحاجة إلى سنوات وسنوات كي أتجاوز فقدك، فكيف أُشفى من يقين مقتلك؟ فإن كنت أنتِ هي فهلّا ساعدتني على تجاوزه؟ سأعترف لك بأنّي منذ ادّعائك أنّك البندرية أمسيت شخصين، شخصًا يكتب إليكِ متصنّعًا قناعة زائفة، وشخصًا آخر مقتنعًا بمقتلك. فهلّا حاولتِ مساعدتي لأعود كما كنت بشخصية واحدة؟ ساعديني لأشفى من تأثير السنين. 
حزين يا سيّدتي جدًا جدًا لحالتك الصحّية، وسعيد لأنّك على قيد الحياة. وإنّه لأمر يبعث على الحيرة. فلو كنت قُتلتِ لما كاتبتني. هل تقيمين في عدن؟ وإن كان فهلّا زوّدتني بعنوانك؟ أم انتقلت إلى مدينة أخرى؟ فقلقك وشوقك لصنعاء يوحي بأنّك بعيدة عنها. سأزور المدينة العتيقة من أجلك، وأطوف في أحيائها وأصلّي كما طلبت على حجارة أزقّتها، وسأكتب إليك بما هي تعيشه».
للحظات يقتنع بنجاتها، لتغشاه حالة من السعادة، متلهّفًا لأن يكتب لها المزيد من التفاصيل الحميمة، حتى يتعافى من يقين رحيلها. 
لكنّها لم تترك له فسحة للحوار مع نفسه، إذ سريعًا ما وصله ردّها: «مضحك أمرك. فبدلًا من أن أتلقّى اعتذارك، أجدك تصوّر نفسك ضحيّة، منكرًا أنّي من تخاطبك، مصمّمًا على قتلي. تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يعرفها سوانا ألم تقنعك، لتمضي في قتلي؟ عد إلى أيّامنا إن كان ما كنت تردّده عن حبّك لي صحيحًا، ثمّ اسأل قلبك، أم أنت لا تحمل قلبًا؟ ورغم ذلك ما زلت أعشقك وأشتاق إليك، لم يعد شوقًا غرائزيًا بل صار شوقًا روحيًا، أتمنّى رؤيتك، تأمّل وجهك الضخم، عينيك الصغيرتين، فمك حين يضحك وقد فُتح على اتّساعه كأنّك تصهل، ليتحوّل وجهك إلى وجه دمية، وتلك الندوب المنتشرة على أطرافه. أتمنّى أن أرى ظلال قامتك السامقة. حين نلتقي ستجد أنّني ما زلت أحتفظ بتلك المشاعر التي حملتها يومًا تجاهك، ولم أدع السنين تعبث بها. صحيح أنّنا عشنا سنة أو تزيد قليلًا معًا، لكنّي أشعر بأنّها عمري كلّه. ففيها تذوّقت أولى المشاعر، وبكارة النشوة، ومنها استمددت عوالم سكنتني ولم تبرح تتفاعل فيَّ. 
وأعترف لك بأنّي حاولت التخلّص من مشاعري نحوك، حتى أعيش حياتي. حاولت أن أنظّف ذاكرتي منك بسحق مشاعري، لأجد أنّ حبّي لك متجذّر في كياني، فكلّما سعيت لحبّ رجل، أجدك وقد استبطنته، وأجده يذكّرني بك بدلًا من أن ينفيك، فكلّ محاولة حبّ لي تنتهي بالفشل، لأكتشف أنّ حبّي لك مثَّل لي عاهةً مستدامة، حرمني من العيش كبقيّة النساء.
ثمّ إنّ هذا المرض الذي أقعدني كنت أنت السبب في ابتلائي به. وكان أملي حين أجدك أن تساعدني على استعادة حياتي. لكنّي أجدني قتيلة لديك، مرفوضة منك. فلمَ كلّ هذه القسوة والنكران؟ أرجوك ترفّق بي، فقد ابتُليت بأحزان كثيرة، كنت أنت المسبّب لها».

الغربي عمران
كاتب يمني، وُلد في صنعاء عام 1958. هو عضو في «الأمانة العامّة لاتّحاد الأدباء والكتّاب اليمنيّين» ويرأس «نادي القصّة» و«مركز الحوار لثقافة حقوق الإنسان». في رصيده الكثير من القصص والروايات أشهرها مصحف أحمر (2010)، مملكة الجواري (2017)، ظلمة يائيل (2012) التي فاز عنها بجائزة الطيّب الصالح في دورتها الثانية عام 2012، وحصن الزيدي (2019) التي حازت جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع عام 2019، كما أدرجَت على اللائحة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ الإبداعية عام 2021.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024