الأدب العربي في الغرب..هل نكتب عن الزهور؟

شادي لويس

السبت 2019/06/29
قبل أكثر من عشرة أعوام، وكنت في شهوري الأولى في لندن، دعيت إلى احتفالية شعرية، شارك فيها صديق عربي في إلقاء بعض نصوصه. نظمت الفعالية الصغيرة، التي حضرتها بضع عشرات من الجمهور، مؤسسة لا تهدف للربح، تعمل مع اللاجئين. وكانت الأمسية جزءاً من برنامج المؤسسة التي تنسق أنشطة للكتّاب المنفيين، لمساعدتهم على الاندماج في مجتمعهم الجديد وإعادة بناء حياتهم التي تركوا جزءاً كبيراً منها في بلادهم.


في الأمسية، اختلطت النصوص الرديئة مع الجيدة، وتداخلت القصائد أحياناً مع قصص المعاناة الشخصية التي حملها البعض كوسام أو يد ممدودة لتسول الشفقة. وبين فقرة وأخرى، كانت المنسقة الإنكليزية الشقراء -وكانت هي نفسها شاعرة جيدة إلى حد كبير- تقدم فواصل بملامح حزينة وعينين على وشك البكاء، وهي تحكى عن الأثر العلاجي للشعر وعن التعافي من التروما. للحظات كانت الشاعرة البيضاء تبدو كممرضة أو خبيرة للعلاج بالإبر الصينية، تقدم للجمهور عدداً من "الحالات" الناجحة، وكان الأمر مزعجاً بعض الشيء. وفي طريق المغادرة، صارحت صديقي بالشعور غير المريح الذي تملكني، واكتفى هو بالقول إن لقاءات الكتابة الأسبوعية التي تنظمها المؤسسة، هي ما حررته من الكوابيس الليلية التي رافقته لسنوات، وأعادت إليه الثقة في نفسه. وصمتنا معظم الطريق، وعند لحظة وداعنا، وكان الأخير، سألني الصديق بغضب ولَوم: بعد سبعة أعوام في السجن، إن لم أكتب قصائد عن التعذيب، فعمّ تريدني أن أكتب؟ عن الزهور؟

كان هذا كله قبل الربيع العربي وأزمة اللاجئين وصعود اليمين الغربي، ولاتزال الأسئلة التي أثارتها تلك الليلة قائمة، وأكثر إلحاحاً وتعقيداً. في شباط/فبراير الماضي، كتبت الشاعرة الفلسطينية، جمانة مصطفى، مقالاً غاضباً بعنوان "أوروبا وصناعة الشعراء: لا أعمال خيرية في الأدب" تنتقد فيه تركيز المؤسسة الثقافية الأوروبية، على إنتاج أدبي عربي يثير الشفقة، وأن ما يبحث عنه المثقف الأبيض هو "أن تروي له قصصاً يفتقدها ويرفضها، عن الاغتصاب والتعذيب الجنسي". في الشهر نفسه، ألقت الشاعرة المصرية، إيمان مرسال، في الجامعة الأميركية في القاهرة، محاضرة نشرت لاحقاً بعنوان: "ترجمة الشعر العربي الحديث إلى الإنكليزية: أسئلة السياق السياسي والجمالي"، ووصلت إلى "هيمنة الكيتش السياسي والثقافي والنسوي على معظم الترجمات منذ عقود". ولم تكتفِ مرسال بالإشارة إلى الشعر، بل ذهبت إلى صور أخرى من الأدب، كترجمة مقاطع من رواية الكاتب المصري أحمد ناجي "استخدام الحياة"، كنوع من التضامن إثناء أزمة سجنه. لكن الفارق الجوهري بين جمانة مصطفى وإيمان مرسال، هو أن الأخيرة لا تستخدم "الكيتش" كحُكم سلبي، بل على العكس أنه قد يكون "الطريقة الوحيدة لسماع صوت من لا يسمعهم أحد". ونشر الشاعر المصري، عماد فؤاد، مقالين في جريدة "العربي الجديد"، بعنوان رئيس "سوق الأدب العربي بالغرب"، وأشار في مقاله الثاني "كيف تستثمر دور الضحية"، إلى أن المؤسسات الثقافية الأوروبية تفضل النصوص المكتوبة من الفئات التالية "ناشطون مستقلون ذوو خلفية يسارية، أو نسوية أو أناركية، أصحاب البشرة الملونة، المهاجرون، المرضى النفسيون، السجناء السابقون، ذوو الميول الجنسية المثلية، ومجتمع الميم...".

يبدو هذا كله صحيحاً إلى حد كبير، لكنه ليس الصورة كاملة. فقبل عامين، أجريت حواراً لـ"المدن" مع إيكارت تيمان، المدير الفني لمهرجان "شباك" للثقافة العربية في لندن، وكنت جاهزاً بسلسلة من الاقتباسات عن النظرة الاستشراقية للثقافة العربية في الغرب، والدور الذي تؤديه المهرجانات والجهات المانحة في تعميق الاختلال في موازين القوى، بينها وبين منتجي الثقافة العربية، وهكذا.. ودللت على ذلك في برنامج المهرجان حينها، والذي ركز على تيمات اللجوء والحرب والعنف والاضطهاد. وكنت مستعداً لحوار فلسفي عميق، لكن الرد جاء أبسط كثيراً من هذا كله، مع الكثير من علامات الاندهاش: "هل تريدني أن أتظاهر بغياب الحرب؟" حرب في سوريا واليمن وليبيا، وبشكل أو بآخر في السودان والعراق وفلسطين، ومذابح واختفاء قسري وألوف في السجون في بقية المنطقة، هل ننظم مهرجاناً عن الزهور؟ استعرض الرجل حينها، بصبر، برنامج مهرجانه، ولم يكن كله عن الضحايا والأقليات النسويات ومجتمع الميم، وإن كانت تلك التيمات جزءاً من البرنامج بالتأكيد.

"نعثر لدى تشيخوف وأوين وسورلي ماكلين على باعث لرفع الحقيقة فوق الجمال، لتوبيخ المزاعم المهيمنة التي يصنعها الفن لنفسه مجسدة، على نحو ساخر، في شخص نيرون المغني والعازف المنغمس، على نحو يستحق اللوم، في أنغام، بينما مدينته تحترق".. في كتابه "سلطة اللسان" يطرح الشاعر الإيرلندي، شيموس هيني، أسئلة ذات صلة، عن علاقة الحقيقة بالجمال في الأدب، وبإحالات مستمرة لشعراء وكتّاب الكتلة الشرقية، المضطهدين واللاجئين وضحايا معسكرات العمل في سيبيريا. لكن ما يتملك هيني تجاه رفاقه الشرقيين وشِعرهم، ليس الشفقة بل الغبطة الممزوجة بقليل من الحسد المخفي. ففي حين كان دور الأدب يتداعى في الغرب إلى مستوى التسلية، كان "شهداء" الكلمة خلف الستار الحديدي يثبتون أن مسألة الأدب هي الحد الفاصل بين الحياة والموت، وجوهر الحقيقة. كان هذا كيتشاً آخر. كيتش بالمعنى الذي طرحته مرسال، بل وربما بمعني أكثر وقاراً. ولا يتوقف الكيتش هنا. فنظرة مقربة من أدب أميركا اللاتينية، والهوس الغربي به، ربما تكشّف عن كيتش آخر، بديع ومذهل في جمالياته، عن أدب الديكتاتوريات والسجون والانقلابات العسكرية والجنرالات المستبدين. لكن ما كان من المفترض أن يكتب عنه الشعراء في سيبيريا ستالين أو الروائيون الأرجنتينيون المنفيون في مدريد وباريس، عن الزهور؟

"لم أفهم أبداً ما رأيته في تلك الليلة، لكني أشعر بالامتنان كوني رأيت وجوهاً عديدة لأوروبا، لا نعرفها في "الشرق"، أشعر وكأني "مستغرب"، وأن أدوار البحث الأنثروبولوجي قد تم تبادلها أخيراً، لمرة وحيدة لم أكن موضوعاً للاستشراق الغربي، وكان شعوراً جميلاً"... في كتابه "حشوة الشكولاتة، تدوينات من تحت القشرة البلجيكية" الصادر بالإنكليزية (2016)، يقدم المصري ماهر حمود نموذجاً لموجة صاعدة من كتابة المهجر، لا تتوافق مع تنميطات المضطهَد الناقم على مجتمعه الشرقي، أو الموضوع الإيكزوتيكي، بل العكس تماماً.

وتطرح السورية رشا عباس، في "كيف اخترعت اللغة الألمانية" (2016) الصادر بالألمانية، نموذجاً آخر للتيار نفسه، أدب عربي في الغرب لا يكتفى بتمحيص الأوروبي، بل بالتطاول عليه بالسخرية، وتفكيكه لمجرد اللعب به. وككل موجة أصيلة في الأدب، ستتحول مع الوقت موضوعاتها إلى كيتش، فالمؤسسة الثقافية الغربية، يوماً بعد آخر، تميل الآن إلى استكشاف تجارب مختلفة للآخر والمهاجر، وصورة الغرب في عيونهم الوافدة الناقدة والحادة. في الحقيقة يبدو كيتش المضطهَد أو أدب العمل الخيري الغربي في تراجع وانحسار ملموسين.

لا عيب في الحقيقة في الكتابة عن الزهور، وسط هذا كله، بل ربما تبدو وظيفة الشعر الأكثر جمالية هي الكتابة عن الزهور وسط المأساة. لكن لا يبدو أن هناك وسيلة للتظاهر بغياب الحرب أيضاً. سيظل الشاعر "الضحية" موجوداً لأن الضحايا موجودون بالفعل، وهم كثيرون جداً، ويظل الكيتش جزءاً من المشهد الثقافي، لأنه لا طريقة لمنع هذا، لا في الغرب، ولا في أي مكان آخر. سيظل هذا كله جزءاً من مشهد واسع ومتنوع. جزء ربما يظل ضرورياً، ولا غنى عنه، وفي أفضل الأحوال لا يمكن تجاهله.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024