ملالا، ناديا، نجود، نوجين...المأساة تصبح قضية بفضل كتّاب أشباح

نزار آغري

السبت 2021/04/17
كانت تلميذة في الخامسة عشرة من عمرها، جالسة في الباص، عائدة من المدرسة مع رفيقاتها. اعترض رجل ملثم الحافلة. صعد الرجل وسأل التلميذات: من منكن ملالا؟ رفعت يدها وقالت: أنا. سحب الرجل مسدساً من تحت سترته وأطلق عليها النار. أصابت الرصاصات الجانب الأيسر من وجه الفتاة التي غابت عن الوعي، غارقة في الدم. كان ذلك في منطقة وادي سوات الباكستانية، عند الحدود الأفغانية. أفاقت الفتاة من غيبوبتها بعد عشرة أيام في مستشفى في مدينة بيرمنغهام ببريطانيا. أخبرها الأطباء والممرضات ما جرى لها.

هي ملالا يوسفزاي، الباكستانية التي نجت من الموت ثم استعادت عافيتها ووعيها وإصرارها على الحياة. كانت محاولة قتلها عملاً انتقامياً من المتشددين الإسلاميين الذين دأبت تنتقدهم وتدعوا البنات إلى ارتياد المدرسة بالضد من رغبتهم. 

في العام 2018 صدر كتاب يحمل العنوان: "أنا ملالا"، وتحته بالخط العريض "ملالا يوسفزاي". الكتاب أطلق شهرتها وجعل قصتها على كل شفة ولسان. يشير العنوان، كما هو واضح، إلى أن ملالا هي التي تتحدث. هي، إذن، التي دوّنت الكتاب. إنها تروي تجربتها المريعة مع القتل. المغامرة التي كادت تودي بحياتها، لكن أيضاً التحديات التي واجهتها قبل وبعد محاولة الإغتيال، وأحوال أهلها وظروف بلدها والوضع السائد في العالم. لكن مهلاً. لا يمكن لفتاة صغيرة في عمرها أن تكتب كل هذا. لا يمكن لها، أكثر من ذلك، أن تحيط بالملابسات والأحوال في البلاد وتفسر مجريات الأمور. صحيح. لم تكن ملالا هي التي كتبت سيرتها هذه. ولو تفحصنا غلاف الكتاب بدقة أكبر، سنرى بخط رفيع جداً، وتحت اسم ملالا يوسفزاي، اسماً آخر تصعب قراءته لصَغَر الخط: كريستينا لامب.
هي الصحافية البريطانية الشهيرة، مواليد 1965، التي عملت في "صنداي تايمز" ونالت رتبة الإمبراطورية البريطانية من يد الملكة إليزابيث تقديراً لعملها الصحافي. كريستينا لامب هي، إذن، الكاتبة الحقيقية لسيرة ملالا، لكنها تراجعت إلى الخلف تاركة الفتاة تتصدر المشهد بوصفها "مؤلفة" الكتاب.

هذا الصنيع الكتابي، أي الكتابة من خلف الكواليس، سلوك شائع في الفضاء الصحافي الأوروبي والأميركي. يقوم ذلك على التقاط أحدهم أو إحداهن، حادثة أو واقعة أو شخصية أو مشهداً، من أجل الإحاطة بالتفاصيل، ومن ثم التدوين، في قالب أدبي رصين، وبصياغة متقنة تأخذ بألباب القاريء، فيتحقق بذلك سبق مثير ملفت للأنظار والأذهان. ونالت ملالا جائزة نوبل. وبيع كتابها بمئات آلاف النسخ.

ناديا مراد
حين كانت ملالا تتهيأ لاستلام جائزة نوبل، كانت فتاة أخرى، في مكان آخر، تعيش مصيراً مشابهاً، ربما أكثر فظاعة، هي والآلاف من أهلها وأقاربها، نساء وأطفالاً وشيوخاً. 
كان أفراد تنظيم الدولة الإسلامية، داعش، اقتحموا معقل الإيزيديين في سنجار، وأخذوا يفتكون بهم بمنتهى الوحشية. قتلوا الرجال وأخذوا النساء سبايا. 

نادية مراد كانت واحدة من السبايا اللواتي خطفتهن عناصر الدولة، بعد قتل ستة من أشقائها. وهي تمكنت من الهرب، وروت محنتها ومحنة قريناتها في كل مكان مضت إليه.
جينا كراجسكي، الصحافية الأميركية، هي التي تولت تدوين سيرة نادية مراد. صدر الكتاب بعنوان "الفتاة الأخيرة". لا نرى اسم الصحافية في غلاف الكتاب الذي كتبت مقدمته المحامية اللبنانية الأميركية الشهيرة، أمل كلوني.
نادية مراد نالت، هي أيضاً، جائزة نوبل للسلام.

نجود علي فتاة يمنية كانت طفلة في العاشرة من عمرها حين أجبرها أهلها على الزواج من رجل يكبرها بعشرين سنة. تمكنت، هي الأخرى من الهرب، والإختباء في بيت خالها إلى أن اضطر الزوج إلى طلاقها.

الصحافية الفرنسية دلفين مينوي، وضعت كتاباً يحكي سيرة نجود ومعاناتها كأصغر طفلة مطلّقة في العالم. الكتاب بعنوان "أنا نجود، عمري عشر سنوات ومطلّقة". 

نوجين مصطفى هي لاجئة وناشطة سورية كردية من مدينة كوباني الكردية، الواقعة في أقصى الشمال السوري عند الحدود مع تركيا. اكتسبت الشهرة بعد خوضها غمار رحلة هروب شبه أسطورية عبر بلدان عديدة إلى أن وصلت إلى أوروبا. أقول أسطورية، لأن نوجين تعاني الشلل وتستعمل كرسياً متحركاً. لقد هربت، هي وشقيقتها، من الحرب التي حولت بلدتها إلى خراب، حتى وصلت إلى ألمانيا. طوال الرحلة، كانت نوجين على الكرسي المتحرك تدفعها شقيقتها. 
لم تكن نوجين تتخيل أن تتحول حياتها إلى كتاب في يوم ما، وأن تطلب دور النشر حول العالم ترجمته إلى 13 لغة، وأن تغزو صورها القنوات التلفزيونية العالمية والمواقع الأخبارية، فتقف أمام جمهور واسع لتروي تجربتها في أكبر وأشهر البرامج العالمية، وكذلك المنظمات العالمية مثل "منظمة هيومن رايتس واتش" و"الاتحاد الأوروبي".
لكن ذلك كله حصل. والفضل يعود، مرة أخرى، إلى الصحافية البريطانية كريستينا لامب، وليس غيرها.

الكتاب يسرد حكاية نوجين المذهلة: رحلتها العجائبية، لكن أيضاً، وقبل كل شيء، إرادتها الفولاذية. صفحات مليئة بالآلام والتفاصيل المحزنة، والمرعبة أحياناً. يُخيل للقارئ للوهلة الأولى أنها قصة من قصص الواقعية السحرية خطها قلم روائي من أميركا اللاتينية.

يقول الكاتب الإيطالي فابيو غيدا أنه كان يلقي محاضرة في مدينة تورينو، ذات يوم، وحين انتهى، اقترب منه شاب أفغاني. سأله إن كان لديه وقت للإستماع إليه. قال: لقد قرأت قصتك عن اللاجئين. إذا أردت، أروي لك ما حدث معي في رحلة اللجوء من أفغانستان إلى إيطاليا.

هكذا، ظل غيدا يستمع أياماً وليالي إلى عنايت الله أكبري، وهو يحكي قصته التراجيدية المحزنة. منذ لحظة أخذته أمه إلى الحدود الباكستانية، وقالت له إرحل إلى بلاد الله الواسعة. كان في الثانية عشرة من عمره، وكان عليه أن يخوض الرحلة الطويلة بمفرده. أن يعبر حدوداً ويدخل بلاداً. أفغانستان، الباكستان، إيران، تركيا، اليونان، وصولاً إلى إيطاليا. رحلة عاش خلالها الأهوال. سار، ورفاق تعرف إليهم في درب الآلام، عبر جبال مكسوة بالثلج وناموا في كهوف ورأوا الأمواج تنتزع رفيقاً لهم من القارب وتبتلعه في عتمة الليل في عرض البحر من تركيا إلى اليونان. وخرج فابيو غيدا بنص روائي، واقعي سحري، عنوانه: "لا تماسيح في البحر".

يبدو الصحافيون والكتاب الأوروبيون، والحال هذا، أمام منجم لا ينضب من الحكايات والقصص. لا يترتب عليهم سوى أن يمدوا أيديهم قليلاً ليغرفوا من هذا المنجم ما يريدون، من دون عناء. غير أن هذه الكتب لا تشتمل على الجانب التراجيدي للضحايا فحسب، بل تمثل رسالة تقول للعالم أن هؤلاء بشر، ناس من لحم ودم، ولا بد من فعل شيء لوضع حد لهذه المآسي التي لا تشكل القصص القليلة المروية عنهم سوى رأس جبل الجليد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024