ما حققه 17 تشرين من دون أن ينجزه

روجيه عوطة

الثلاثاء 2020/10/20
ليس صحيحاً أن حدث 17 تشرين لم يحقق شيئاً. على العكس، هو حقق ثلاثة أمور واضحة على الأقل، قد تكون متداخلة، أو ربما لا، لكني سأحاول ربطها ببعض البعض.

الأمر الأول، هو وجود ما سمّاه الشاعر عباس بيضون في مقالته الأخيرة "الشعب". وإن كان الاستدلال إلى وجود هذا الشعب حين خرج إلى الشوارع متظاهراً، هو عمل سهل، فالاشارة إلى وجوده في حين مغادرته لها، ليس كذلك. قد يصح في هذه الجهة الحديث، وعلى طريقة بول كلي، عن كون هذا الشعب في الأساس شعباً ناقصاً، وبالتالي وجوده متطابق مع نقصانه. حين يقع الحدث بالتوازي مع ذهابه إلى صناعته، هو يتحول من شعب ناقص إلى شعب خائض، وحين يتلاشى ذلك الحدث، يعود من الخوض إلى النقصان. في المقلبين، يبقى هذا الشعب موجوداً، كما أنه، وفي مقلب نقصانه، يجعل من الحدث مرجحاً أكثر مما لو كان على مقلب الخوض. فأن لا يكون هذا الشعب في الساحات الآن، فهذا لا يعني سوى أنه يوماً ما سيكون.

إلا أن الناشط لا يعرف ذلك، فهو، وفي مختلف مجالاته، من السياسة إلى الإعلام، ناشط "فينومينولوجي" (طبعاً، صفته هنا من باب الفكاهة)، بحيث أنه، وعندما يجد الشعب أمامه، ينطلق في مديحه. أما حين لا يجده، فيبدأ بذمّه، أياً كان نوع هذا الذم (وعظ، تثوير، توعية، تذنيب، حض الخ.)، وبين المديح والذم، يردد شاكياً: يا لليأس، يا للحزن. وفي هذا السياق بالتحديد، ثمة أمر حققه حدث 17 تشرين: موت هذا الناشط. فعلياً، أخرج هذا الحدث مشهداً جميلاً للغاية، ومفاده مشهد الناشط التعيس ذاك محاولاً التواصل، ذماً ومدحاً وشكاية، مع الشعب، لكن من دون أن يستمع هذا الشعب اليه، وفي حال استمع اليه فليتلف حديثه. فلا محل لهذا الناشط من الإعراب حيال هذا الشعب، وحيال حدثه، وهذا، في الواقع، ما لا يمكن له أن يعترف به، لأنه، وببساطة، يؤدي وظيفته على أساس نفيه. غير أن الناشط يصر على أن يكون رأس هذا الشعب، أن يكون على سفينته، بالقرب من دفته، محركاً اياها. وفي بعض الأحيان، قد يتزود بشعلة، لكي ينير طريق الشعب. بالطبع، كل هذا لا يذكر سوى بما كتبه كركيغارد مرة في "ou bien...ou bien". إذ يقول بما معناه أن أخطر شيء في الليالي الحالكة، وتماماً، كالليالي اللبنانية الراهنة، هو أن تقدم بعض السفن على الإنارة لغيرها، بحيث أنها بذلك تؤدي بها إلى الضلال أكثر من الظلام نفسه.

بالتأكيد، لن يحمل موت الناشط، وكالعادة، إلى دفنه، وأول استعصاء دفنه هو القول، وكالعادة مرة أخرى، أن "الناشطين ليسوا كلهم هكذا، فهناك اليميني، وهناك اليساري، هناك المدني...". لا شك في صحة كل هذه المعزوفة. وهنا، بالتحديد، يندرج الأمر الثالث الذي حققه 17 تشرين في ما سماه بيضون في مقالته ذاتها "الجمهرة"، التي ينتمي إليها كل هؤلاء الذين يحسبون انهم "منسلخون" عن طوائفهم ونظامها قبل ذلك الحدث. فالناشط من هذه الجمهرة طبعاً، ومعه المثقف، والى جانبه الطامح سياسياً الخ. إنها جمهرة لهؤلاء الذين ليسوا من الشعب الناقص، أو هكذا يبغون، ولا من النظام، أو هكذا يعتقدون. بيد أن 17 تشرين أدى إلى تفتيتها، أو بالأحرى كشف تفتتها، مضيفاً إياها إلى التفتت العام. فمن الرائع جداً أنه، وفي هذه الجمهرة، لا أحد يتفق مع أحد. لكن ما هو ليس رائعاً، أنه حين يريد أحد التنكر لعدم اتفاقه مع غيره، يؤلف معه مجموعةً لا تكون من الشعب الناقص، وبالتالي تتأرجح بين توجهها صوب النظام وبين استقرارها على كونها تشكيلاً عصبياً ومغلقاً. ولهذا، لا بد من توازي تفتت الجمهرة مع تجنب التنكر له، ولهذا أيضاً، البرنامج السياسي الوحيد حالياً هو البرنامج الذي يطرحه الشعب الناقص.

هذه الأمور الثلاثة، حين تتحقق، لا تكون إنجازات بالطبع، لأن الحدث ليس حسان دياب. على العكس، فهو بحد ذاته درس في الإقلاع عن قياس الأشياء بالإنجاز والنفع. فقد يكون أفضل ما في النص "النشاطي" الذي كُتب في ذكراه، أنه يبين كونه، وحتى بتناوله اياه، لا يجعله ينجز شيئاً ولا ينفعه بشيء، بل يقربه مما هو، أي موضوع إنشاء. وهذا التقريب هو أمر رابع على الأرجح! 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024