"قضية رقم 23".. كل هذه القصة لا تستحق

روجيه عوطة

الجمعة 2017/09/15
في حال قرأ المتفرج بعض التقارير الدعائية، التي يدبجها كارهو نفوسهم، عن فيلم زياد دويري الجديد، يعتقد بأنه سيذهب إلى مشاهدة "قضية 23" ليجد أن المخرج ارتكب فعلة سينمائية بحق اللاجئين الفلسطينيين لصالح المسيحيين اللبنانيين. لكنه، وما أن يبدأ هذا الفيلم، وينتهي، حتى يعلم أن أمره ليس على هذا الوضع، بحيث أنه لا يقوم بنقيضه، أي اقتراف فعلة بحق المسيحيين اللبنانيين لصالح اللاجئين الفلسطينيين، بل إنه يساوي بين الطرفين، وذلك، بالإستناد إلى سرد نمطي عنهما كمتحاربين في الماضي، وكمتباغضين في الحاضر.

وعلى إثر الحادث في السابق والمستحضر في الراهن، يتبادلان التصورات السائدة عن بعضهما البعض، أكان مسندها خُطب بشير الجميل، التي تحض على إقتلاع الفلسطينيين، بوصفهم "بلا أصل"- وعن هذه الخطبُ بالذات ينم الملفوظ  "المتمنع والمتقوّم" ضد اللاجئين السوريين- أو الخطاب اليساري، بنسخته اللبنانية، الذي ينطوي على دعوة عصبية إلى إلغاء المسيحيين، باعتبارهم "خونة، وفاشيين، ومتفرنسين"- وهذا الخطاب بالذات له تعبيره الثقافي، الذي ينطلق من التهكم على "طانطات الأشرفية" قبل أن يجد في جماعة دينية بأكملها رهطاً من السذج وليني المكاسر.

قصة الفيلم متوقعة، لا يشوب جريانها أي حرف عن قناته، لا سيما أن فاتحتها قد تشكلت على تقليد محلي، مفاده التبسيط الروائي لأول التحارب عبر حادثة عرضية، وهي هبوط المياه من مزراب طوني (عادل كرم)، الذي يسقي زريعته على البلكون، فوق رأس ياسر (كامل الباشا)، في حين إشرافه على ورشات التأهيل العمراني في حي فسوح. بهذه الحادثة، يندلع الصراع بين شخصيتي، المسيحي والفلسطيني، وبعد هذه الحادثة، تنتقل القصة على وتيرة واحدة، ذاهبةً من التطور الدرامي على أساس سبب ونتيجة إلى المبالغة في تعقيد الحبكة وجعلها مفرطة في تخييلها إلى درجة مضحكة. أما، الملجوم بينهما، والذي كان بمقدوره أن يفضي بالفيلم إلى جو لافت، فهو ما يعمد المخرج إلى التردد في إظهاره، أي منظوره الهوليوودي، الذي، وحين يبديه في بعض المشاهد، تماماً، كما في سير طوني على مقربة من الكرنتينا، يسرع إلى التراجع عنه.

تدور القصة على عروض عديدة. محورها، عرض الصراع المسيحي-الفلسطيني من خلال طبائع طوني وياسر، ومن خلال ملاسنتهما وتعاركهما، ومن خلال كيفيات تفاعلهما مع الأزمة الموجودة بينهما. وإلى جانب هذا العرض، هناك ثان، يقدم مفعول ذلك الصراع على كل  محيط من محيطي الشخصيتين، واندفاعهما إلى التصادم، مثلما هناك عرض ثالث، يضمر تسليطاً نقدياً سهلاً للسلطات السياسية والحقوقية، التي يجسدها "النائب" والمحامي المغتر بذكائه وجدي وهبي (كميل سلامة)، الذي يدافع عن طوني، بالإضافة إلى ابنته (ديامان بوعبود)، التي تتحداه، مدافعةً عن ياسر، قبل أن ترتد إليه في وقت تهديد سلامته. وثمة عرض رابع، شبه تأريخي، ولا يستوفي شروطه، للمشقات الفلسطينية والمسيحية، عبر استعادة أيلول الأسود ومجزرة الدامور بالكلام والصور والفيديو.
 

بواسطة هذه العروض، يذهب الفيلم بإستفهامه، أي "مَن المحِق بين الإثنين؟"، مشدداً على أن كل حجة تقابلها حجة، وكل شتيمة تقابلها شتيمة، وكل ظُلامة تقابلها ظُلامة، وكل تعنت يقابله تعنت، وكل احتجاج يقابله احتجاج. ذلك، قبل أن يتصاعد الإستفهام بضوضائه، وعندها، يبدو كأنه يفلت من يد طارحه، أي دويري إياه، فيستعين برئيس الجمهورية ليحل المشكلة، لكنه، لا يستطيع، ويستعين بقائد القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي يحاول تهدئة مناصره، لكنه، يفشل، كما يجهد في التقريب الإعتباطي بين طوني وياسر، لكنه، يخفق. وهكذا، بإفلات إستفهام الفيلم من مخرجه، تتفاقم القصة، حتى تظهر كما لو أنها خالية إلا من الموسيقى، التي تنتج ضوضاءها أكثر مما ترافقها، وكما لو أن تلك القصة، وعندما تختار الشطط، تسعى إلى الوقوع على عقب لها، غير أنها لا تتوقف عن فقدانه.

لقد طرح دويري استفهامه، "مَن المحق بين المسيحي والفلسطيني؟"، وأسرف في تضخيم وقائعه، ولم يصل إلى أي إجابة، بل وصل إلى درب مسدود. فعلياً، لا يتكهن المتفرج، ومنذ فاتحة الفيلم، بأن الإستفهام قد يلاقي جوابه، لأنه صياغته قد تمت بالتصورات التنميطية عن مشكلته وشخصياته، ومن المعروف أن هذا النوع من التصورات مصنوع لكي يمنع إنشاء أي سؤال ضروري، ولكي لا يتيح أي شرح له.

الإستفهام غير ضروري، وقصته بحد ذاتها لا تستحق كل هذه الضوضاء في جريانها. هذا، ليس شعور المتفرج، بل إن الفيلم هو الذي يقوله: في الأساس، ياسر ما عاد يرى في طوني عدواً، فها هو يعمل في حي فسوح، وطوني، من جهته، وقبل أن يجهر بصوته، ليؤدي كليشيه من الكليشيهات المجتمعية حول شباب القوات اللبنانية، ها هو يجلس على كرسي في إحدى إحتفالات حزبه، متابعاً قائده يتكلم عن انتقاله من الحرب إلى السلم، مصفقاً ومقتنعاً. الإثنان يستكملان عيشهما، والإثنان، وعندما يمضيان إلى التصارع، يدركان أن ما يقدمان عليه ليس جديراً بكل هذا الضجيج، بل أنهما، مرةً، تورطا فيه، ومرةً، أراداه ليشعرا بأنهما مؤثرين في حياتهما الضيقة.

الدليل على هذه الحقيقة، دليل متوزع، لا يبينه الفيلم سوى لأنه يصل إلى درب مسدود، وهذا أفضل ما فيه.
 
على صعيد الاجتماع، هناك موقع النساء من "قضية" أزواجهن، بحيث يتسمن بنظرة نحوهم، نظرة تبوح بتلك الحقيقة، إذ يظهرن كأنهن، ومن مشهد إلى آخر، يقلن لهم: "ما تقدمون عليه مجرد فشة لخلقكم، ولا داعي له، لا حاجة لكي تسقطا غضبكما على بعضكما البعض، لأن الغضب، ولمّا تفجرانه بينكما، لن يؤدي إلى أي نتيجة، سيحاول الجميع الإستفادة منه، مسؤولون وإعلاميون ومحاميون، سيحاول الجميع الصعود على متنه". النظرة النسائية، هنا، لا ترتكز على مقولة "المصالحة الأخوية"، ولا على مقولة "أنتما تعيشان الضغوطات نفسها"، بل على كون التصارع بين الزوجين يتعلق بمشاكل يعانيها كل منهما على حدة، ولا يعرف كيف يحلها، ولما التقى بغيره وجد فيه مهرباً منها. إنه التصادم الإسقاطي، وليس الصراع الهوياتي، هذا ما تصرح به النظرة النسائية، لكن أحداً لا يبالي بها.

بالإضافة إلى هذه النظرة، التي تقول الحقيقة، ثمة إشارة على صعيد الديكور، الذي يرتفع في الفيلم بمعية مهندس السينما اللبنانية، الفنان السينوغرافي حسين بيضون، وفريقه، وهي قاعة المحكمة البيضاء والفارغة، بحيث أنها  تشكل المجال الأولي لإستفهام الفيلم، وقد ظهرت لمرة واحدة قبل أن تختفي، وتحل مكانها قاعة أخرى، أكبر وممتلئة. هذه القاعة تقول أيضاً حقيقة أن القصة بين الفلسطيني والمسيحي، ومثلما صورها دويري، أو بالأحرى التقطها على أساس التصورات التنميطية عنها، ومهما تضخمت ومهما علت الضوضاء فيها، لن تصل سوى إلى المجال، الذي انطلقت منه، أي لن تعود سوى إلى الفراغ.

لكن الحقيقة تنجلي أكثر بين الشخصيتين في الخاتمة، التي وقع عليها الفيلم بعدما وصل إلى طريقه المسدود في معالجة إستفهامه. طوني وياسر يتبادلان إبتسامة محددة، تبدو كأنها تفيد بـ"لقد خدعنا الجميع، فأنت، وعلى شاكلتي، تعرف، ومنذ البداية، بأن القصة لا تستحق كل الضجة، لكننا، مرةً، تورطنا فيها، ومرةً، أردناها، حتى صارت قضية عامة، قبل أن ننصرف عنها بعيداً من الأنظار".

بهذه الإبتسامة، يعلن فيلم زياد دويري أن إستفهامه قد فلت من يده، وبأن الكاميرا، التي حاول أن يطرح بها مشكلة الصراع الفلسطيني-المسيحي، لا يمكنها سوى أن "تعكس المجتمع" بما هو نتاج سلطات سياسية وإعلامية وغيرها، يعني أن تعلق مثله في تصورات تنميطية، قد تنفس تشنجه، لكنها لا تحملها إلى أي شكل من الإبداع.

أدركت الكاميرا أنها اكتفت بالعروض، وأخفقت في المقاربة السينمائية، وأدركت أن "المجتمع" الذي تعكسه، ما عاد يحتاج إليها لكي تهبه مرآة، بل إنها تستعير مرآة ولا تضيف عليه شيئاً سوى المزينات التقنية، وهذه هي إحدى كوارث الفن السابع في لبنان. وعلى هذا المنوال، ارتفعت الكاميرا عن بيروت، طارت من قصتها ومن قضيتها، وتركتهما. فعلياً، كان من الأجدى لفيلم دويري أن يبدأ من النهاية. لكن، وبما أنه لم يفعل، فقد مضى من أرقام كثيرة قبل أن يصل إلى رقم واحد: صفر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024