جهنم العربية تُزهر مجدداً

رشا الأطرش

الخميس 2019/04/11
لم تكد تمرّ أيام على وصف الرئيس اللبناني، ميشال عون، للربيع العربي بأنه "جهنم"، حتى طار رئيسان عربيان. الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، والسوداني عمر البشير، كانا قد نجحا في تجنب نتائج الهبّة الأولى للثورات العربية، وكان الأمل في تجدد الانتفاضات لإطاحتهما محفوفاً بالشكوك والهواجس. لكن الرجلين، المُجايِلَين لميشال عون، أسقطتهما جهنم التي أزهرت من جديد.

لعل النظرة، اليوم، إلى سقوط أحد الحكّام المعمّرين العرب، تختلف عما كانته قبل ثمانية أعوام. حتى المشاعر تبدو أكثر تعقيداً، تتشابك فيها النشوة، مع قلق صحّي. قلق مَن يراقب ولا يَسكَر بانتصاره. قَلق من لا يسارع إلى الحسم والجزم والإجابات، فيخرج فرحه مزداناً بالأسئلة التي منها تتشكل المواقف وردود الأفعال، ويحتفل مع مَيل مبكر للنقد.

بالطبع، ليس هذا موقع الرئيس عون، ولا منبع كلامه عن الجحيم والإرهاب خلال مقابلة مع القناة الأولى التونسية. وهو العسكري القديم السائر، وتياره السياسي وحلفاؤه، في "حرب على الفساد" في لبنان الذي يحيي بعد يومين الذكرى الـ44 لاندلاع الحرب الأهلية. فالحرب اللبنانية مستمرة، هي نفسها تقريباً، لكنها تُخاض اليوم بالمؤسسات. وبدلاً من أن يرسي زمن السِّلم دولة المؤسسات، فإن مؤسسات الدولة باتت، بتقسيماتها المعروفة، بيادق ممثلة الطوائف والجماعات والعصبيات، على طريقة الـ"أفاتار" في الألعاب الالكترونية. وبدلاً من أن يكون اتفاق الطائف قد استفاد من كل هذه السنوات الماضية، ليتجاوز نفسه بأداة الإجماع عليه، إلى صيغة أفضل مزيدة ومنقّحة، فقد صار هو نفسه شعار الحرب الراهنة. وباتت صلاحيات رئاسة الجمهورية، في مواجهة صلاحيات رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء مجتمعاً، خطاب الحرب اللبنانية الباردة التي تخاض هذه المرة بمسمّيات حقوق المسيحيين، وبأدوات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والقضائية والعسكرية التي يصفّي بعضها بعضاً، والتي تفتح لبنان مرة أخرى ساحة دولية وإقليمية: بالعقوبات وسلاح "حزب الله"، بالليرة والوضع الاقتصادي الهش ومعارك الإنماء/الحرمان، بفزاعة النازحين واللاجئين المدموغين طائفياً.. ودوماً بالملف السوري الذي يأبى عون وحليفه الإلهي إلا أن يأخذا فيه جانب الطاغية، قتالاً على الأرض السورية بالمليشيات، وعلى الأرض اللبنانية بالتطبيع وإجراءات "العودة"، وفي الفضاء الدولي بالعمل المسمّى دبلوماسياً. والحق أن هذا ما يصحّ وصفه بالمشهد الجهنمي: لبنان الرهينة، والاستعصاء السوري.

الربيع العربي عاد، بإنجازَين جديدين، ليطرح على الجميع أفراحه وإشكالياته. ما زال الجميع يلهج بالفضائل النسبية والمُقارَنة للتجربة التونسية التي، على الأقل، لم تُفضِ إلى طغمة عسكرية جديدة، ولا إلى حرب أهلية. وما زال الجميع يراقب تقهقر مصر، والرثاثة التي استحوذت على سياستها واجتماعها وحرياتها، وعودة عبادة الفرد/البيادة التي كان قد ساد الظن بأنها انتهت مع جمال عبدالناصر. ليبيا مكركبة. اليمن حرب وجوع. استيلاء الجيوش والمؤسسات الأمنية على بلدان الربيع. الفوضى. الفئويات التي تبقى بلا علاج دستوري وحقوقي وقانوني. انفلات العنف. انهيارات مالية واقتصادية. التطرف الديني والإيديولوجي. الديموقراطيات، بمختلف أشكالها ومختلف خصوصيات المجتمعات المطالبة بها، والتي لا تتحقق بمجرد سقوط المستبد. الزمن والآليات اللازمة لفتح صفحة جديدة، مُرضِية ونظيفة، وأيضاً بلا أوهام يوتوبيّة. والثورات المضادة، بتقنياتها وناسها الذين لا يمكن إقصاؤهم ولا لفظهم جميعاً لأن بعضهم مكوّن شعبي ووطني. وفي الوقت نفسه، الإصرار على المحاسبة كركن أساس يُبنى عليه التغيير طويل الأجل، أو ما تيسّر منه في المدى المنظور.

كل هذا حاضر في أذهان وصدور الجزائريين والسودانيين. سمات الحذر من إعادة إنتاج النظام الاستبدادي واضحة ومسموعة. العيون مفتوحة على العسكر كي لا يصادروا ما ليس لهم، في الشارع وفي السلطة. الإسلاميون تحت الضوء.

لا شيء مؤكداً في شأن ما سيُنجَز بالفعل، وبالمعايير هذه، في الجزائر والسودان. لكن الربيع العربي اخضوضر هذا العام بفكرته الأم: لا بدّ أولاً من نزع قداسة الحاكم، القائد، الزعيم، وليّ الأمر، المرشد، الرئيس، الأب. لا بدّ أن يسقط. لا يعقل أن يُعمِّر في قصره، ولا أن يورث ابنه/حفيده/صهره/عمه/أخاه.. بلداً وشعباً بأكمله، مهما طال أمده واستطال سلطانه.

لكن ملايين السوريين اليوم يتساءلون عن "استثنائهم" القاتل، الدامي، الملحمي. عن بقاء بشار الأسد وريثاً، وربما مورثاً، لسوريا منكوبة ومحتلّة. الفرضيات عديدة ومتداولة: موقع سوريا الجيوسياسي، الموزاييك الطائفي، تداخل العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي في النظام السوري، الطائفة الأولى وطوائف الجهاد أو الحياد أو الترضية، كيف يرى العالم سوريا، وكيف يرى السوريون أنفسَهم والسياسةَ والهوية. سوريا المُعقّدة، والمُغالى في تبسيطها إلى حد الإهانة.

يحق لملايين السوريين أن يحزنوا ويغضبوا ويحتاروا. كما يحق لملايين اللبنانيين أن يخجلوا بتصريحات أدلى بها رئيس جمهوريتهم في تونس.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024