على بدر... حفلة سلمان رشدي

المدن - ثقافة

الثلاثاء 2020/06/30
لم يكن سهلاً اتخاذي لقرار الاستقرار في الغرب أو البحث عن بلد بديل، ومن الطبيعي أن يربكني التفكير بالأخص أن الأمر كان مفاجئاً ولم يكن مخططاً له. وأول مساعدة طلبتها من ناشري الإنكليزي، في ذلك الوقت، وكان جون نايلز الذي أسس في الجامعة الأميركية في القاهرة، أيوسي برس، والتي تحولت إلى دار هوبو الأميركية في نيويورك، وهي التي أصدرت روايتي بابا سارتر في طبعتها الأولى. ومن ثم، من جون أدلر، وكيلي الأدبي الذي عمل بجد على إيجاد مخرج سريع لي ومريح أيضاً. وفي أول رد فعل لجون قال لي: ما رأيك أن نطلب لك توصيات من كتّاب معروفين في الغرب؟ برهة صمت، ثم قال: أمين معلوف هل تمانع؟ أبداً، لكن هل هذا ممكن؟ ثم قال: سلمان رشدي؟، وقبل أن أجيبه بشيء، حسم أمره: سأتصل حالاً بسلمان. 

كانت قراءتي الأولى لسلمان رشدي في العام 1995 في بغداد، أي بعد ستة أعوام من الضجة التي أقيمت حول روايته "الآيات الشيطانية" والفتوى التي أصدرها الإمام الخميني بقتله كمرتد عن الإسلام في العام 1989. وكان دخولي إلى رواياته عبر رواية "أطفال منتصف الليل" النسخة الإنكليزية الصادرة عن بلومزبيري التي فازت بجائزة "بوكر"1981 والتي عثرت عليها في شارع المتنبي بنسخة جيدة، وهي تسرد أحداث حياة طفل مولود في منتصف الليل في الوقت التي حصلت فيه الهند على استقلالها، إذ يتمتّع هذا الطفل بقوى خارقة وعلاقة خاصّة مع الأطفال الآخرين المولودين في فجر عصر جديد ومضطرب في تاريخ شبه القارة الهندية المترافق مع ولادة الدولة الحديثة في الهند. ولا أظن أنني أحببتها في ذلك الوقت بل بدت لي أشبه بالأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية من حيث اعتمادها على الاكزوتيكية الهندية والصور النمطية والفنطازيا وأسطرة اللا-أوروبيين وبالتالي نزع الطابع الإنساني عنهم. لكني لم أجرؤ على قول هذا الأمر عنه لأنه تحول في الدراسات النقدية إلى أيقونة الدراسات ما بعد الكولونيالية، ووضعت أعماله في مقدمة هذه التيارات التي حسبت أنها القوة المتقدمة في نقد التجربة الاستعمارية والتي كتب عنها كبار النقاد من إدوارد سعيد إلى هومي بابا. حتى كشفت الكاتبة الاسبانية، آنا كريستينا منديز، في كتابها "سلمان رشدي في السوق التجاري للثقافة" الأدوار التي لعبها سلمان رشدي كوسيط ثقافي في مختلف مجالات الإنتاج العام، وكيف جعلت الصناعات الثقافية من نصوص ما بعد الاستعمار، لا سيما أعمال سلمان رشدي، أدوات كسب تجاري، خاضعة بشكل صارم لتنظيم السوق من قبل عدد قليل من الشركات متعددة الجنسيات. 

بلغت ثروة سلمان رشدي، عشرين مليون جنيه إسترليني بعدد محدود من الروايات، وأصبح نجماً لبرامج الشو، وهو ليس نجم المؤتمرات الثقافية فقط، بل ومجلات الموضة، ومهرجانات السينما، وبرامج أغاني الروك آند رول. فقد أعاد رشدي صياغة أسطورة أورفيوس في رواية الأرض تحت قدميها (1999) التي قدّمت تاريخاً بديلاً لموسيقى الروك الحديثة، فحملت إحدى أغاني فرقة "يو تو" الموسيقية الأيرلندية، اسم الرواية ذاته، واستخدمت العديد من مقاطع الرواية كأغاني روك. وبالتالي اعتُبر رشدي كاتب أغاني. فضلاً عن نجوميته كمعارض حي للإسلام السياسي والديني، عبر روايته الرابعة "آيات شيطانية" (1988) التي أثارت جدلاً كبيراً بين المسلمين، بل وصل الأمر إلى فتوى الإمام الخميني التي دعت إلى اغتياله في 14 فبراير 1989. فأصبحت الدول تمنحه الحماية مثل الرؤساء، وتحيطه بالفرق المدربة وتحمله الطائرات العسكرية في تنقله.

بعد يومين فقط من هذه المحادثة القصيرة أصبح في يد ناشري ووكيلي الأدبي توصيتين من كاتبين كبيرين، تشهدان بمكانتي الأدبية، سهّلتا إقامتي وحصولي على الإقامة والحماية في ظرف أسبوعين فقط. وهذا جعلني ممتناً لأمين معلوف وسلمان رشدي، بشكل حقيقي، وبالتزام أخلاقي، وبالرغم من الرغبة في شكرهما شخصياً ولكني لم أسع لها بنفسي. وخلال هذه الفترة بدأت بقراءة جدية لأعمال سلمان رشدي. أما أمين معلوف، فهو على الدوام من كتّابي المفضلين وأحرص على قراءة جميع أعماله. كاتب هادئ لا يقارن إلا بجوليان غراك، مثقف ببراعة من الطراز الذي يرغبه رايمون آرون بالمثقف، وبالرغم من شجاعته، لا يميل إلى الصخب والفضائح واختلاق المعارك، بينما هنالك جو مشحون يحيط على الدوام بحياة سلمان رشدي وكتاباته، وكأنه يلعب دور "دك القذر" في أعمال ريتشارد برتن الغرائبية.

قرأت في البداية "الآيات الشيطانية"، النسخة الفرنسية بطبعة فوليو اشتريتها من مكتبة فناك وانكببت على قراءتها في المقاهي، كلما أذهب إلى مقهى آخذها معي، وهي عمل معقد في واقع الأمر بخمسمئة صفحة مستوحى من أحداث حقيقية مثل: الهجوم على طائرة هندية في العام 1985، أعمال شغب بريكستون في 1981، الحماسة الشعبية حول الممثل أميتاب باتشان الهندي بعد حادث إطلاق نار عليه في العام 1982، الغرق المأساوي لعدد من المسلمين الذين أقنعوهم أن البحر سيفتح أمامهم في العام 1983، الثورة الإيرانية في العام 1979، وهنالك أيضاً مراجع السيرة الذاتية للمؤلف، بعض الأحداث التاريخية المستوحاة من حياة النبي محمد، من الآيات الشيطانية في رواية البخاري والتي تعطي العنوان للكتاب وتحتل ثلاث فقرات من الرواية فقط، وفي النهاية هناك الموضوعات المركزية في جميع أعمال رشدي: اقتلاع المهاجر، تمزق الهوية الثقافية بين ثقافته الأصلية التي يبتعد عنها وثقافة البلد المضيف التي يرغب بشدة في اكتسابها مع صعوبة تحوله إليها. كما تبني الرواية جسوراً بين الهند وبريطانيا العظمى، بين الماضي والحاضر، بين الخيال والواقع، وتتناول العديد من الموضوعات الأخرى مثل الإيمان، الإغراء، التعصب الديني، العنصرية، وحشية الشرطة، الاستفزاز السياسي، المرض والموت والانتقام والغفران...

قصة الرواية بسيطة تدور حول شخصيتين رئيسيتين، جبريل فاريشتا وصلاح الدين شمشة. الأول ممثل مشهور في السينما الهندية، فقد الثقة بنفسه بعد مرضه وهرب إلى إنكلترا بحثاً عن امرأة شابة كان يعرفها قبل وقت قصير. أما صلاح الدين شمشة، فهو أيضاً من أصل هندي، لكن لديه جواز سفر بريطانياً، ويريد أن يكون بكل جهده بريطانياً، لكن لون بشرته يجعله في مواجهة التحيز والعنصرية دائماً ويكسب عيشه من خلال موهبته في تزوير صوته. كلاهما وجد نفسه في رحلة إلى لندن، وهما الناجيان الوحيدان من هجوم إرهابي على طائرة هندية. تتطور الأحداث بعد إلقاء القبض عليهما من الشرطة للاشتباه فيهما كمهاجرين غير شرعيين، لكن هناك عداء بينهما من دون أدنى بادرة تضامن، يطور كل منهما هذا العداء بطريقته الخاصة ويسير طوال الرواية إلى أن يواجه كل منهما الآخر. 

لا أتذكر أني أحببت الرواية، فالكثير من مقاطعها ممل وحواراتها طويلة ولا أعرف أحياناً على ماذا تدور وفيها بعض الهجوم الصبياني على الدين. يصر رشدي أن روايته فنية، لكنها حشرت في زاوية السياسة، واختزلها الاعلام في كتاب ضد الدين الإسلامي، بينما هي ممثلة لصراع بين تيارين في الإسلام الرشدية والغزالية، وهو خط التحول في الفكر العربي الإسلامي، وأنها في مقدمة الجدل العقلاني ضد اللاهوت، وأن والده كان متأثراً بابن الرشد فغير اسمه إلى رشدي. وعد روايته بأنها ثورة ضد اليقينية العمياء والبلادة الإيمانية. لكنه تلقى اتصالاً هاتفياً في يوم عيد الحب (الفالنتاين) من ناشرته لتخبره أن حياته منذ هذا اليوم قد تغيرت، فقد أصدر آية الله الخميني فتوى بهدر دمه، ودخل من حينها في نظام قسري من الحماية والتخفي، بعدما غير اسمه إلى جوزيف أنطوان، وهو مزيج من الاسمين الأولين للكاتبين العظيمين، جوزيف كونراد، وأنطون تشيخوف.

ومن الواضح من خلال مذكراته أن هذه الفتوى قد شكلت ضربة أساسية لحياته الشخصية، أكثر مذكراته تتحدث عن رجال الحماية لسرية وعوالمهم كما لو أنه خبير بهم. بل تطلعنا على تفاصيل أجهزة الأمن الأوروبية، البريطانية والفرنسية، وخبرته بالسيارات المصفحة، والتدريب العالي والمناورات ومشاكل الحراسة والوسوسة والمبالغة الأمنية المفرطة، لكثرتها واحتلالها لمساحات واسعة من مذكراته تجعلك تشعر بمركزية هذه القضية في حياته.
 
على العموم لم أحب من كتابات رشدي سوى رواية "العار" التي جسّد فيها الاضطرابات السياسية في باكستان، واستند في بناء شخصياتها على ذي الفقار علي بوتو والجنرال محمد ضياء الحق. فهي رواية رائعة في منظورها وتحليلها للسياسة في العالم الثالث ومنظورها للهجرة أيضاً، أما أعماله الأخرى فقد بقيت حذراً في تلقيها. 

وفي يوم كنت في لندن، حاضراً في معرض كتابها الذي يقام كل عام عند انتهاء الشتاء. وقبل يوم أو يومين من نهاية المعرض، كانت برفقتي صوفي كريغ، مساعدة جون أدلر وكيلي الأدبي في لندن، وهي امرأة انكليزية في الثلاثين من عمرها، لكنها موظفة صارمة، لم أرها يوماً تضحك، كانت تكتب لي البرنامج على الدقائق، حتى في المقهى حينما تنتهي من شرب قهوتها تنهض، تدفع الحساب وتقف لي في الباب.

في الواقع، كنت قد ميزت في معارض الكتب الكبيرة، لندن أو فرانكفورت، وبالأخص لندن، طبقتين من المشاركين. الطبقة الأولى هي طبقة الناشرين الكبار والوكلاء الكبار وسكرتيراتهم، وهذه تختفي في فنادق الفايف ستارز والمطاعم الكلاس والمواعيد الغامضة، وهنالك طبقة من موظفي تسويق الكتب والسكرتيرات ومساعدي الوكلاء والمترجمين وصغار الصحافيين وهؤلاء كل يوم يذهبون الى البارات الرخيصة والمطاعم الشعبية للفيش اند تشبس، أحد أشهرها وأكثرها فقراً "تايم آوت آيرش بوب". وجمال هذه الطبقة الشعبية، وأكثرهم من الشباب، أنك تسمع منهم كل ما يخص أسرار الطبقة الأولى، كل زواغير دور النشر الكبيرة، كل معارك المحررين في ما بينهم، فضائح الكتّاب، فلانة خانت فلان، وتلك نامت مع علان، صراع الكتّاب، أسرار الجوائز، تسريب الأخبار للصحف. حينما ينتهي المعرض في المساء، أفترق أنا عن جون آدلر وكيلي الأدبي، وصوفي كريغ، اللذين يغادران مع الطبقة الأولى وأغادر أنا مع الطبقة الثانية إلى "التايم آوت"، لأعود في الليل آخر ساعات الليل مع كم هائل من المعلومات الممتعة من الفضائح والقصص المثيرة. 

في يوم وأنا في جو الصخب في "التايم آوت"، على رنات كؤوس البيرة وقصص الفضائح، اتصلت صوفي كريغ تلفونياً وقالت إن وكالة "ريد كوت" تنظم حفلة لسلمان رشدي وزوجته بادما لاكشيمي الممثلة الهندية وعارضة الأزياء ومقدمة برامج الشو الأميركية والتي تصغره بثلاثة وعشرين عاماً. وأن من رأي جون آدلر أن أذهب للحفلة حيث سيرتبان لي دعوة من هناك، لأشكره أولاً، وهناك سألتقي بالعديد من الكتاب والناشرين. وافقت من دون أن أسأل عن التفاصيل. وسمع الجمهور الصاخب المحيط بي الموضوع، ومن هنا بدأت القصة للوجه الثاني من شخصية سلمان رشدي وما لم أكن أعرفه عنه. على العموم وصلتني الدعوة وفيها شرط غريب، على الأقل بالنسبة لي، أن حضوري يجب أن يكون ببدلة سموكن سوداء، وبابيون أسود. حيث سيكون جميع المدعوين هكذا. في الواقع لم يكن في حقيبتي غير بنطلونين من الجنز وبنطلون من القماش، ولم يكن أسود، وبلوزين ملونين من الصوف الناعم، ومعطف مطري، لمعرفتي أن صيف لندن غزير الأمطار، ربما حتى أكثر من الشتاء. وفي الوقت ذاته استحالة تلبية هذا الطلب، فذلك اليوم كان يوم أحد، ومن الصعب إيجاد محل لبيع هذا النوع من البدلات. وعلى العموم فإن تجارة هذا النوع من الملابس ليست أمراً متوفراً على نحو واسع، فهي محلات خاصة ومتواجدة في أماكن خاصة، ولم تكن لي أية معرفة بأماكنها في لندن، بل أقول الصدق أنني لم يسبق لي قبل هذا التاريخ أن اشتريتها أو لبستها، بل لا أعرف حتى ما هي أسعارها سوى أنها غالية الثمن جداً، وربما حسابي في البنك لا يجيب لي بنطلون سموكن وليس بدلة سموكن. 

فتلبكت، انهيت المكالمة دون أعرف ماذا سأصنع. لكن أبطال "التايم أوت أيرش بوب" يعرفون كل شيء، ولهم حلول المشاكل الذين تعترضهم شكليات وبروتوكولات الطبقة الأولى، فلهم مناوراتهم أيضاً، قالوا إنهم يعرفون محلاً لتأجير هذا النوع من البدلات بمبلغ بسيط وهي رجل متعاون يشبه أبطال هتشكوك، ويمكنهم أن يتصلوا به حتى أيام العطل. وبالفعل ذهبنا في اليوم التالي إلى محل أشبه بقبو في لندن، صاحبه طويل له ندبة في جبينه تشي بحياة سابقة صعبة، عرفت في ما بعد أنه كان دوبلير في السينما ويقوم بأعمال خطرة. وبالرغم من ابتسامته، فقد بدا لي تحت الضوء الشاحب مثل جزار. استأجرنا البدلة واعطوني مع البدلة ورقة بستين فقرة علي توقيعها، أشبه بالعقد لكنها فعلاً مهلكة، عقلية إنكليزية لا تساوم، كل فقرة خاصة بنوع معين من العطب المحتمل للبدلة. إذا أعدتها وأحد زراراتها مرتخية كم الغرامة، إذا وقع على البدلة واين (نبيذ) أبيض كم الغرامة، اذا أحمر كم الغرامة، إذا لوثت القميص الأبيض كم الغرامة، إذا ثقبت الجيب... لم يترك المشرع الملعون، صغيرة أو كبيرة لم يذكرها، ولشخص مثلي يسمونه في الفرنسية "مال ادروا" لا تفوته أن تسقط من الملعقة على قميصه أو تتلون بذلته بالواين فهذه مشكلة كبيرة. مع ذلك وقّعت صاغراً على أمل أن أراعي ما كتب في المساء. 

أخذتني صوفي في المساء إلى الحفلة، ولها بروتكولها الخاص من الدخول إلى الوصول حيث تتقدمني صوفي لتقدمني إلى بادما لاكشيمي، التي كانت متألقة فعلا ًبجمالها وابتسامتها وعينيها الذكيتين، يقف إلى جانبها سلمان رشدي وهو وحده الذي كان يرتدي جاكيتاً من الساتان أبيض وبنطلوناً أسود، وهو قصير بلحية بيضاء، يرتدي نظارات كبيرة، لكنها لا تخفي نظرة حادة وغير مريحة من عينيه. قدمتني صوفي له، أنني الكاتب العراقي الذي كتب لي التوصية وقدم له جون آدلر كتابي "بابا سارتر" و"حارس التبغ" بالإنكليزية، فقال لي: أفغاني؟ لا، عراقي قلت له بثبات. بعدها استمع الى صوفي ثم التفت لي: أنت الكاتب الإيراني؟ لا عراقي. يبدو أنه يقوم بهذه الأعمال بشكل روتيني، هو يكتب التوصيات كلما طلب منه الناشرون أو الوكلاء الذين يعرفونه. غير أنه انتبه لنفسه، فشدّ على يدي بقوة وقال لي أنه لا ينسى مساندة ثلاثة من الكتّاب العرب أيام محنته: إدوارد سعيد، أدونيس، ومحمد أركون. ثم قال لي أن التراث الذي يستند إليه في كتابته هو العربي ثم الهندي. وفي الواقع هذا صحيح، من يقرأ كتاباته يراها مشبعة بأجواء "ألف ليلة وليلة" و"السندباد البحري" وكتب الفلسفة، من ابن رشد إلى الغزالي، ثم طلب من صوفي أن ترتب لنا لقاء في يوم آخر وكانت هذه بادرة بليغة من قبله، إذ قالت لي صوفي أنه لا يفعلها عادة. 

ثم انسحبنا، صوفي وأنا وهي تتقدمني بخطوات وتقدمني لكل شخص تعرفه، حتى شعرت بالدوار لكثرة ما سمعت من الأسماء والألقاب، فأجواء الحفلة مملة جداً، وأصوات الإنكليز المعلبين بالبدلات السموكن تضرب في رأسي أشبه بمضارب التنس. وبالرغم من أننا شربنا الكثير من الشمبانيا، لكن الحذر الذي جمدني كي لا أسقط شيئاً على البدلة المستأجرة، أفسد كل متعة لي، وما أن انتهت الحفلة التي استمرت 3 ساعات حتى سارعت الى إعادة البدلة الى المحل الشبيه بأقبية المجرمين المتسلسلين في الروايات القوطية، ووجه صاحبها الدوبلير السابق والجزار الحالي مبتسم على الدوام، لألحق بأصحابي الفوضويين في الساعات الأخيرة من "التايم آوت" وهناك تعرفت على الوجه الآخر لسلمان رشدي. 

قالوا لي انت حضرت استعراضاً كاذباً للحب، المحامون يعدون أوراق طلاق بادما لاكشيمي من سلمان، فهي تتهمه بالأنانية المفرطة، والغيرة القاتلة، والجشع في جمع المال، والعدوانية بلا مبرر. هكذا إذن؟ لكن كيف تعرف عليها؟ أنا سألت. قالوا تعرف عليها في أحد معارض الكتب، كانت طالبة حينها بعمر 23 عاماً تكتب موضوعاً عن الهجرة، وطلبت توقيع أحد كتبه، وتحدث معها قليلاً وقال لها أنه سيساعدها في موضوعها، وأخذ منها رقم هاتفها. وفوجئت باتصال غريب في اليوم التالي لشخص بصوت مرتبك، قال لها أن الرقم خطأ، إلا أنها اشتبهت أن يكون سلمان رشدي فأعادت الاتصال به، ومنذ ذلك اليوم بدأت علاقتهما. حينها كان متزوجاً من زوجته الثالثة، الكاتبة الأميركية الزابيت ويست، ولدت له ابنهما هارون وكانت شريكته في كتابه عن الكتّاب الهنود الذي أصدرته دار فنتيج، وكتب بشكل رائع عن أرنداتي روي، ثم اصطحب بادما إلى باريس وهناك نام معها في فندق ريجنسي. في البداية، ولكون بادما صغيرة في السن وهو رجل متزوج بعمر والدها، شعرت بالعار. لكنها لم تستطع أن تفترق عنه، وبقي لديها هذا الإحساس بالذنب، إلى أن اخبرها في يوم أنه سيطلق زوجته، فارتعبت وقالت له: أريدك أن تقسم أنك لا تطلقها من أجلي، قال لها أن علاقته بزوجته عملياً قد انتهت حتى قبل أن يعرفها، أي بادما. لكن سلمان أخبر زوجته المطلقة أنه يخونها مع فتاة جميلة في العشرين من عمرها لكي يمعن في إهانتها، غير أنه بعدها، خان بادما أيضاً في الفندق نفسه في باريس مع كارولين لانج، ابنة وزير الثقافة الفرنسي جاك لانج. لذلك قال سلمان أني خنتهما كليهما ببراعة. 

في الواقع تزوج رشدي أربع مرات، أولى زوجاته كانت كلارسيا لوارد، أنجب منها ابنه زافار، طلقها في اول أيام الفتوى وحادثة اختفائه، ثم ماتت بعدها بالسرطان. زوجته الثانية هي ماريان ويجينز، الروائية الأميركية، التي اتهمها في ما بعد بسرقة صور ووثائق مهمة من مكتبه لتبيعها بأثمان عالية، وكان يخونها مع الكاتبة الاسترالية روبين ديفدسون، وزوجته الثالثة هي إليزابيث ويست، أنجبا ابناً يدعى هارون، وأخيراً تزوج الممثلة الهندية الأميركية والموديل بادما لاكشمي، والتي خانها مع كارولين لانج، والآن يقال في الصحافة البوليوودية أنه على علاقة بالموديل الهندية ريا سين.

لقد تكلم رشدي ببعض التفاصيل في مذكراته التي صدرت مؤخراً عن دار بنغوين، عن والده أنيس رشدي، مدمن الويسكي، الذي يوقظ أفراد العائلة في الليل، ويشتمهم بأوسخ الشتائم، وإلى علاقة أمه السيئة بأبيه، وكيف لجأت إلى الصمت كي تنقذ زواجها الفاشل. وكراهيته لشقيقته التي تتهمه بالاحتيال عليها وسرقة إرثها، ثم ماتت في أميركا من الكآبة والسمنة المفرطة. 
ثم كتبت لادما باكشيمي أن سلمان حيوان جنسي يحب استعباد النساء، وكان يجبرها على الجنس حتى وهي مريضة بمرض مؤلم في الرحم، وحين كانت تعتذر بسبب الآلام كان يقلب حياتها إلى مأساة وإلى معركة، وأنه يموت من الغيرة القاتلة، فكل يوم إعلان لفائز بجائزة نوبل يسقط في الفراش من المرض.

كل هذه الفضائح حدثت بعد شهرين فقط من حضوري استعراض الحب الكاذب في الحفلة التي كادت تكلفني راتبي، لو تلوثت البدلة المستأجرة.

(*) مدونة نشرها الروائي العراقي علي بدر في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024