صباح فخري والدولة الأمنية

علي سفر

الجمعة 2021/11/05
هذه المرة، لم يختلف السوريون عموماً على أهمية ومكانة الفنان الراحل صباح فخري. وسوى أصوات راديكالية مبعثرة، خفتت في ضجيج الرثاء، طغت موجة التقدير، حتى أن البعض استشعر تحولاً في المزاج العام، يتجلى في الابتعاد عن خوض المعركة المتكررة في صفحات التواصل الاجتماعي، بين المترحّمين على هذا الفنان أو ذاك الأديب الراحل، وبين لاعِنيه.

أسماء قليلة من عالم الفن اقترنت باسم سوريا، من بينها يبرز صباح فخري أولاً، فهو يكاد يكون المطرب الأهم لدى السوريين، وتقدير الأهمية تفصح عنه الكتابات التي نشرت هنا وهناك، وتحدثت عن صنائع صوته الأخّاذ، وعن قدراته العالية في جذب المستمعين وأَسرِهم، ضمن مدارات الأنواع الموسيقية التقليدية التي اشتغل على جعلها حاضرة في العالم الموسيقي المحلي والعربي والعالمي.

لم تعرف الأجيال الفعالة حالياً، نشوء صباح أبو قوس (اسمه الحقيقي)، فقد ولدت تجربته في عالم يبدو مختلفاً وغريباً عن سوريا الراهنة، هو زمن الخمسينيات، فصار وصمته الشخصية، بعدما أخذ اسمه المعروف من اسم السياسي السوري الراحل فخري البارودي، الذي تبناه ورعاه، فصار صباح فخري. لكن سوريا تلك، ذهبت إلى غير رجعة، على أيدي العسكر، فيما نضجت تجربة صباح فخري في المراحل الزمنية اللاحقة المتضمنة في أوقات السيطرة المستمرة لهؤلاء، رغم تغير وجوههم لفترة طويلة، قبل أن يبتلع حافظ الأسد المشهد العام، وتنتهي إمكانية أو احتمالية التغيير في دولته الأمنية الرهيبة.

ضمن هذا المسار المقفل، سيتذكر السوريون أنهم جاءوا إلى الدنيا، فوجدوا صورة الأسد فوق رؤوسهم، ورأوا في شاشات التلفزة وجوهاً لم تتغير، وسمعوا في إذاعتهم الوحيدة أغنيات جميلة لصباح فخري وقلة قليلة معه، وأن أسماء عديدة في عالم الأغنية رحلت، بينما بقي الرجل يصدح في حفلاته، بما يحبون ويتراقصون على نغماته، من دون أن تخالجهم مشاعر الريبة والظنون، في شكل العلاقة بين المغني وبين النظام.

ففي المناخ العام، الذي خاض السوريون تفاصيله بعد استيلاء "البعث" على السلطة، وبعد دخول البلاد المرحلة الأسدية، وسوى النخب الحزبية التي كانت تضمحل وبعض مثيلاتها الثقافية، من كان يسأل مثل هذا السؤال؟

انحدار الحياة السياسية السورية، إلى العدم، بفعل القمع، لم يتواز معه شيء مشابه في الحياة الفنية، لا سيما في العشرية الأولى من حكم الأسد الأب، بل إن فترة السبعينيات، ما برحت مكرسة، على أنها سنوات نهوض وتألق في مدونة التاريخين الفني والثقافي. لكن، ولأن العلاقة الجدلية بين الفن والسياسية، لا تحدث هكذا في الواقع، أي أنها لا تتبع غض النظر من قبل الديكتاتور وأهوائه، فإن السقوط المتتالي للقيم الأخلاقية والفنية لا مناص سيحدث، وإن كان وفق آلية متدرجة! وبينما كان المشهد الغنائي العام يتهاوى، بقي صباح فخري محافظاً على سوية ما يقدمه، بل إن أغلب محفوظات السوريون من أغانيه إنما قد سُمع للمرة الأولى، في زمنهم الراهن.

ضمن هذا المسار، يمكن القول؛ إن هؤلاء تعاطوا في دواخلهم مع تجربة الرجل، كجزء من الحمولة الجميلة لكونهم ينتمون إلى بلدهم. وهذه الحمولة، لن تكون بارزة فقط وسط الخراب العام، بل إنها ستتحول مع الوقت إلى أفضل ما يمكن أن يمر معهم، خصوصاً أن حضور الأغنية الطربية التي ترافقهم في سهراتهم وحفلاتهم، لم يكن له أن يحصل من دون بهاء صوت "قلعة حلب الثانية"، واختياراته ورقصاته الطريفة على المسرح!



رغم وجود أغنيات وطنية في سجلّه، إلا أن صباح فخري لم يُغنِ للأسد، كما دأب المغنون السوريون في مرحلة الثمانينات وما بعدها. لكنه، في الوقت نفسه، لم يكن بعيداً من مواقع السلطة وتأثيراتها والاندماج فيها، فقد شغل منصب نقيب الفنانين، وصار مديراً لمهرجان الأغنية غير مرة، كما أن حضوره صار راسخاً ضمن صراعات الوجوه الفنية على المواقع التي تتحكم بالحياة الفنية السورية. ولا ينسى كثيرون حضوره الدائم في الحفلات التي كانت تعقد كل عام في ذكرى "الحركة التصحيحية"، أي الانقلاب الذي أوصل الأسد إلى الحكم، وتكثر في سيرته الشخصية تفاصيل عن سعيه إلى حظوة السلطة، والحصول على التكريم منها.

الدولة الأمنية التي نشأت في سوريا، لا تتيح للشخصيات العامة أن توجد خارج فضائها، فإما أن تنطوي ضمن قوانينها وأساليب عملها وعلاقاتها أولاً، فتعيش، وتزدهر تحت جناحها. وإما أن ترفض، فتكون مضطرة لأن تجد فضاءً آخر لها، كي تتقدم، فإذا كانت هذه الدولة تستولي على كل شيء في البلاد، فإن هذا يعني في ما يعنيه أن يخرج المرء من وطنه ليجد مساحته في أمكنة أخرى. حدث هذا مع مغنين كثر حول العالم، غادروا بيئاتهم بسبب القمع، وأكملوا وجودهم في بلاد مختلفة، ومن هؤلاء نتذكر المغنية الإيرانية الشهيرة گوگوش، التي تعيش منذ أكثر من عقدين في الولايات المتحدة.

غير أن "سلطان القدود الحلبية" لم يكن مضطراً للخوض في أي من الاحتمالين السابقين، لسبب وحيد هو أنه كان جزء من التركيبة العامة التي وجدت في السياق السوري، واستمرت مع وجود هذا النظام. يمكن تقريب الأمر من خلال تذكّر مؤسسات راسخة، كمجمع اللغة العربية، على سبيل المثال لا الحصر، فهو مؤسسة تقوم بدورها، ولم تتوقف عن ذلك منذ ولادتها، لكنها تكاد تكون معقّمة من السياسة. صباح فخري كان مؤسسة بذاته، تشبه هذا، فهي تستطيع أن تعمل من دون تردد في هذا الزمن أو ذاك، ولا تشعر بأي حرج في مشاركة النظام مناسباته، حتى وإن كان يصنع الجرائم والخراب. فما يتحكم في قرارها إنما هو استمرارها ضمن فضائها، حيث تستطيع أن تزدهر وتعيش، من دون أن تبذل جهوداً كبيرة في الحفاظ على مكتسباتها، التي باتت مع التراكم الزمني غير قابلة للزحزحة، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها. كان الرجل سلطة بذاته، لا يحتاج للعلاقة مع النظام ومخابراته كي يفرض ما يريده، بل إن هذه العلاقة تأتي مكملة لوجوده، وجزءاً من إكسسوارات حضوره العام.

صباح فخري، سُلطة، أصابها قليل من الوهن في زمن الأسد الابن، بسبب التعب الجسدي بحكم العمر، لكنها لم تفقد سطوتها، ولعل عودة بسيطة إلى لقاء ابنه أنس أبو قوس مع رابعة الزيات في برنامج "شو القصة" عبر فضائية "لنا"، توضح كيف كان شكل العلاقات التي ربطت صباح فخري بالآخرين. فأنس لا ينطق عن هوى، بل هو صوت أبيه، في جبروته، وفي ضعفه أيضاً، بعدما عانى في سنواته الأخيرة من أضرار وضعه الصحي المتداعي.

هل كانت حالة صباح فخري في علاقته مع النظام وحيدة ومتفردة؟
في الإجابة على السؤال، يمكن القول نعم، إذ إنه من القلة التي لم تتورط في تكريس منتجها الفني بشكل فاقع ومباشر لصالحه، رغم علاقته المتواشجة معه.
ويمكن الإجابة بلا، إذ إن تجارب مماثلة ماتزال حاضرة أمام الجمهور العربي، تورط أصحابها في علاقات مباشرة مع الأنظمة الحاكمة، ولم يؤثر ذلك في قيمة فنها وإبداعها، وهنا نتذكر كيف كان الفنانون العراقيون أصحاب الأصوات الرائعة يقفون على المسارح في بغداد يحيون صدام حسين ومعاركه. ونتذكر أن محمد عبد الوهاب بقامته الفنية المهمة لحّن أغنية شهيرة مكرسة لمديح الأسد الأب بعنوان "يجعلها عمار"، وغير هذين المثالين ثمة الكثير في أمكنة أخرى! فلماذا لم يسقط هؤلاء من لائحة المغنين الأكثر حضوراً لدى الجمهور العربي؟ هذا السؤال لا يجد له جواباً ضمن الحيز الراهن، رغم توفر كل معطيات السقوط، في حال اتباع معيارية العلاقة مع الأنظمة في تقييم الفن والفنانين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024