هل الله جلاّد؟

أسعد قطّان

الأحد 2020/04/05
في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، سجّلت إحدى القنوات التلفزيونيّة في بيروت حلقةً تناولت مسألة الحرّيّة الإنسانيّة والعدل الإلهيّ وما نجده في الكتب المقدّسة، ولا سيّما في التوراة العبريّة، من عنف باسم الله. شارك في هذه الحلقة كلّ من المطرانين الياس عودة وجورج خضر والأستاذ أنسي الحاجّ رحمه الله، وأدارتها الآنسة إيلان أندريا. يومها، «حشر» أنسي الحاجّ المطرانين بمنطقه الحادّ وحججه المستمدّة من الفلسفة الوجوديّة، حتّى إنّ جورج خضر وجد نفسه مضطرّاً إلى كتابة مقالتين في جريدة «النهار» عن الموضوع ذاته، حملت واحدة منهما عنوان «هل الله جلاّد؟». لقد أطلت البحث بين أوراقي ولم أعثر على هذا النصّ. والمعروف أنّ شيخ اللاهوتيّين في العالم العربيّ دخل قبل بضع من السنوات في خلوة طويلة وتوقّف عن الكتابة. تراه ماذا كان سيكتب اليوم عمّا يتداوله الناس في خضمّ أزمة الكورونا عن الإله الذي «يجلد» الناس ويعاقبهم ويرسل الأوبئة لتأديبهم؟
هذه المقدّمة تحيلني إلى كلام آخر للمطران خضر قاله لنا ذات يوم حين كنّا طلاّباً نتتلمذ على كلماته الذهبيّة وعلى التواضع المنبعث من عينيه، اللتين يعسر تحديد لونهما. لقد ورد في سفر يشوع بن نون عن سقوط أريحا في يد بني إسرائيل ما يأتي: «وحرّموا كلّ ما في المدينة من الرجل وحتّى المرأة، ومن الشاب وحتّى الشيخ، حتّى البقر والغنم والحمير، فقتلوهم بحدّ السيف». قال المطران ما معناه أنّ الله في هذه الحادثة لم يكن يقف إلى جانب النبيّ يشوع في فتحه أريحا، بل إلى جانب «أطفال» أريحا الذين قضوا بسيف النبيّ (طبعاً هذا إذا افترضنا أنّ الحادثة تاريخيّة). ما هو المنطق الذي يسوس قراءةً من هذا النوع للكتب المقدّسة؟ التوراة العبريّة والكتاب المقدّس المسيحيّ والقرآن الكريم نصوص تشتمل على كثير من العنف. ما الذي سوّغ للأديان أن ترفع هذه النصوص إلى مصافّ الكتب المقدّسة؟


كان من الممكن أن تختطّ الأديان التوحيديّة طريقاً آخر طبعاً، أن تأخذ مثلاً مجموعةً من المبادئ الأخلاقيّة السامية وتدوّنها على الطريقة «الفلسفيّة» وتقول: هذا هو كتابي العزيز. ولكنّ الأديان انتهجت طريقاً أكثر صعوبةً وأكثر واقعيّةً في آن معاُ. فكتبها المقدّسة ليست مجرّد مجموعة شرائع أو مبادئ أخلاقيّة مجرّدة، بل تنطوي أيضاً على كمّ هائل من الحكايات. لا أخالني أبالغ إذا قلت إنّ المرويّات، سواء كانت قصصاً قصيرةً أو طويلةً أو كتابةً تاريخيّةً أو قصائد سرديّة، إنّما تشكّل إلى حدّ  بعيد قوام الكتب الدينيّة في الأديان التوحيديّة. ولعلّ المقاطع السرديّة في الكتب المقدّسة هي إلى اليوم المقاطع الأكثر تأثيراً في النفس البشريّة. ثمّة في القرآن الكريم، مثلاً، آيات عديدة تغبّط الرحمة واللاعنف. ولكنّي لا أعرف في كتاب المسلمين تعبيراً عن اللاعنف أقوى من كلمات هابيل لقابيل قبيل موته، وهي جزء من حكاية الأخوين الأوّلين كما يرويها القرآن: «لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إنّي أخاف الله ربّ العالمين». أمّا التعبير الأقوى عن سلاميّة الله ولاعنفه في كتاب المسيحيّين، فهو «حكاية» يسوع، كلمة الله الذي يموت على خشبة الصليب رافضاً أن يدافع عنفيّاً عن نفسه رغم أنّه كان قادراً على ذلك.


دعونا ننسَى الكتب المقدّسة لبرهة ونتبصّر قليلاً في أهمّيّة الحكايات. الحكاية مهمّة بالدرجة الأولى لا لأنّها تنقل أمثولةً أخلاقيّة، وهي ربّما تقوم بذلك أحياناً، بل لكونها تشكّل مساحةً تفصح فيها النفس البشريّة عن كلّ تحوّلاتها وتقلّباتها، صعودها ونزولها، إيمانها وكفرها. هذه هي أهمّيّة الأدب، وأهمّيّة لعبة السرد في الأدب. ليست وظيفة الحكاية، والأدب بعامّة، أن تدعم المنظومات الأخلاقيّة وترسّخها، بل أن تنفذ إلى الوجود الإنسانيّ بكلّ نتوءاته وتعرّجاته، بكلّ «عجره وبجره» كما نقول في العامّيّة. أذكر أنّي اكتشفت هذا الأمر حين قرأت روايةً للكاتب السوريّ حنّا مينه بعنوان «الشراع والعاصفة» وكنت آنذاك مراهقاً. لقد ضمّن مينه روايته بعض الشتائم التي من عادة الصيّادين على الساحل السوريّ أن يتفوّهوا بها. أزعجتني الشتائم كما تزعج الناسَ اليوم القصصُ العنفيّة في الكتب المقدّسة. ثمّ أدركت أنّ الشتائم تنتمي إلى الحياة، وأنّ الأدب لا يستحي بالشتائم لأنّه صنو الحياة. الشتائم في رواية مينه لا تقلّل من قيمتها لأنّ الأدب ليس أطروحةً في الأخلاق، بل هو سؤال كبير عن معنى الحياة الإنسانيّة ومحاولة لتلمّس هذا المعنى في حكايات الناس التي لا تنضب. تريدون أن تتأكّدوا من هذا؟ اقرأوا روايات دوستويفسكي وكازانتزاكيس والياس خوري. اقرأوا ملحمة جلجامش ومزامير داود ونشيد الأناشيد وكتاب أيّوب الذي ينتقد الله ويتصارع معه ويتحدّاه. اقرأوا سورة يوسف وسورة مريم.


لو قرّرت الأديان أن تحذف العنف من نصوصها، لانتفت الحكاية الإنسانيّة، التي كان العنف جزءًا منها. وجزء من هذا العنف الإنسانيّ هو أنّ الإنسان يرتكب العنف وينسبه إلى خالقه كي يبرّر ما يقوم به هو من عنف. بهذا المعنى قال لنا جورج خضر في الثمانينات إنّ الله كان متضامناً مع أهل أريحا الذين قتلهم يشوع. فقصّة نجّار الناصرة الذي ذهب إلى حتفه الطوعيّ لاعنفيّاً تكشف أنّ العقليّة العبريّة التي كانت مشاركةً في صوغ نصّ كتاب يشوع نسبت إلى الله عنفها هي، وأسقطت على الله ما ليس ينتمي إلى الذات الإلهيّة. ولا أحسب أنّي مخطئ في الاعتبار أنّ منطقاً تفسيريّاً مشابهاً يسوس، لدى كثيرين من المسلمين، كيفيّة التعامل مع النصوص العنفيّة في القرآن الكريم. فالثابت في الله هو الرحمة واللاعنف، اللذين عبّر عنهما هابيل ساعة ذبحه على يد أخيه قابيل: «لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إنّي أخاف الله ربّ العالمين». ومن هنا يجب أن نطلّ على فهم النصوص العنفيّة من دون إلغائها «فلسفيّاً» لأنّها جزء من التصوير الأدبيّ للذات الإنسانيّة الذي نجده في النصوص الدينيّة.

هل الله جلاّد؟ كلاّ. ولكن لا يمكنه إلاّ أن يظهر بمظهر الجلاّد إذا نحن اكتفينا ببعض نتفٍ من حكايته مع الناس كما وردت في الكتب المقدّسة وأهملنا قراءة الحكاية بكلّ تفاصيلها. والانتباه إلى التفاصيل يستتبع الالتفات إلى الخطّ البيانيّ الذي يلفّ الحكاية من ألفها إلى يائها، والذي يبرّر أن تكون حكايةً مقدّسةً رغم ما تنطوي عليه من جزئيّات عنفيّة مردّها أنّ بعض حكاية الإنسان مع خالقه ومع أخيه الإنسان منسوج بالعنف. هذا الخطّ البيانيّ اسمه لاعنف الله ورحمته، وتأديبه للإنسان عبر المحبّة والودّ، عبر الصبر واللطف، عبر طول الأناة وأمانة الربّ لعهوده القديمة رغم تقلّب البشر، لا عبر إرسال المصائب والكوارث والفيروسات القاتلة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024