مثالثة سياسية.. مناصفة طائفية

رشا الأطرش

الخميس 2019/02/07

أصبح الأمر واقعاً. اتفاق الطائف، والحرب الأهلية التي أنجزته، صار تاريخاً، يستعاد للتحليل والمقارنة، للدراسة النظرية. لكنه ليس العجلة التي يدور بها النظام اللبناني حالياً، رغم الخطاب المستهلك بين قدامى عرّابيه والمستجدين في إطاره على حد سواء، عن حماية الاتفاق وصون مبادئه قولاً وعملاً. والواقع هذا ليس جديداً، كانت ملامحه قد بدأت تتكشف منذ التوافق على صعود الجنرال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. غير أنه، مع تشكيل الحكومة وإعلان بيانها الوزاري، بات صورة مكتملة للحياة السياسية في البلد، وتوابعها الإدارية والأمنية والاقتصادية. وما المخاض الذي سبق التوليفة النهائية بين أقطاب الراهن، أي جبران باسيل وسعد الحريري و"حزب الله"، سوى المظهر العملي لموت الطائف، وإكرام صفته القديمة كحامٍ للسِّلم الأهلي الهش، بدفنها في تراب المتغيرات الكبرى الدولية والإقليمية والمحلية. فما عاد مفيداً أي تفكير أو عمل سياسي بالصيغ السابقة على الموازين الجديدة للقوى، لا سيما مآلات الملف الإيراني، والتحولات الداخلية الأميركية والأوروبية، ناهيك عن الصراعات الخليجية المستجدة، والثورة السورية لافظة أنفاسها الأخيرة.

دُفن الطائف، من دون الحاجة إلى ما سمّي بالمؤتمر التأسيسي، وكل إحراجاته، والعفاريت التي قد تطلقها من القمقم خطوة صريحة من هذا النوع. فلماذا الخوض في مثل هذا الوضوح الخطر، ما دام في الإمكان تطبيق مثالثة سياسية (سنّية – شيعية – مارونية) في القرارات الكبرى والصفقات، مع إلباسها لبوس المناصفة (بين مسلمين ومسيحيين) في المقاعد الوزارية وسائر التعيينات والحصص؟ وهذا، بالفعل، ما حُسم وتجلى خلال الأيام القليلة الماضية. وها هو الحلم اللبناني العتيق بفصل السياسة عن الطائفية، قد تحقق، لكن كما يفيق من نومه فرانكنشتاين.

ليس صدفة أو مفارقة أن الثالوث الحاكم اليوم، والذي قَصُر حكومياً عن ترجمة أمينة لنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، مؤلف من عناصر من خارج اتفاق الطائف وأعضاء ناديه الأصيلين. فإذا كانت وثيقة الوفاق الوطني، التي تتم هذا العام الثلاثين من عمرها، هي الحجر الأساس التي دشّن بها الرئيس رفيق الحريري "الجمهورية الثانية" بتوازنات أميركية-سعودية-سورية، فسعد الحريري اليوم، بماليته المتعثرة وروابطه الإشكالية مع السعودية وعلاقاته المختلفة تماماً بالمجتمع الدولي ودول الجوار، ما عاد حامل إرث رفيق الحريري.. ولا "تيار المستقبل" اليوم، هو نفسه الذي تأسس العام 1995 بمؤسساته الاجتماعية والإعلامية والتربوية. و"حزب الله"، رغم أنه كان شريكاً في الحرب الأهلية، بل خرج من رحمها، فهو، ليلة تحبير الطائف، لم يكن الممثل الرسمي لطائفته، ولا كان شريكاً في رسم خواتيم الحرب إلا من خارج وثيقتها الوطنية، بل ومن خارج دولة الطائف الصاعدة، وجيشها المُعاد توحيده، ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية. أما ميشال عون، فكان المعارض الشرس للوثيقة التي كرّست هزيمة المارونية السياسية، والمَقصي بالتالي من منافعها.

في حين كان وليد جنبلاط ونبيه بري وسمير جعجع، من صنّاع الاتفاق وفي قلبه، ممثلين فعليين لطوائفهم، ومقتسمي غرف البيت اللبناني عشية إعادة إعماره، لولا أن قُلبت الطاولة على جعجع في اللحظة الأخيرة وسُيّر إلى سجنه دوناً عن أقرانه من أمراء الحرب. وهؤلاء اليوم على هامش المنظومة السياسية اللبنانية. ما زالوا مؤثرين في الصورة الكبيرة، نعم، إنما بالحدّ الأدنى. في الضجيج الإعلامي والشارع حيناً، وفي أجندات وسطاء عرب وغربيين أحياناً، وفي ما تيسر من عرقلات هنا وهناك. لكن المتن ما عاد ملعبهم. وكل الكلام عن أن تحالفهم في وجه الثلاثي المهيمن، هو خيارهم الوحيد للبقاء، ما زالت دونه تعقيدات كثيرة، بعضها يتعلق بما يصعب عليهم هم أنفسهم تجاوزه في تاريخهم المشترك، والبعض الآخر موضوعي يتعلق بأحجامهم وما (ليس) في أيديهم من أوراق ضغط.

ليس كل ما سبق للبكاء على أطلال وثيقة منتهية الصلاحية، ومستنفدة الصفة. بل للقول إن آباء الطائف، وأبناؤه قاتلوه، يعون تماماً هذا الواقع المكرّس الآن، لكنهم ما زالوا ينسجون الخطاب – والخطاب المضاد – بمفرداته، خبثاً ورياءً، أو عن قلةَ حيلة، استقواءً وعنجهية، أو سرداً لمظلومية. وهذا ما لم يعد يقبله عاقل... إلا للتسلية، كصحن بزورات يرافق نشرات الأخبار كل ليلة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024