علي بدر عن دار الريس: فرصتي الأولى.. وغضب رياض

المدن - ثقافة

الإثنين 2020/09/28
ربما حياتي برمتها هي مجموعة من الجهد المخلص والمصادفات الرائعة، واحدة من مصادفاتها الأثيرة هي نشر روايتي الأولى بابا سارتر في دار رياض الريس في العام 2001. لم يكن من السهل ذلك الوقت نشر رواية، لأي كاتب، فضلاً عن كونها رواية أولى لكاتب شاب غير معروف. كانت دور النشر العربية في الغالب دور نشر حكومية يعامل فيها الكتاب أشبه ببضاعة بالية ويمر بمرحلة طويلة معقدة من الرقابة الى قصقصة أجنحته وحتى إلغائه، وانتظار النشر يستغرق سنوات عديدة. بإزائها دور نشر خاصة، بقيت محافظة على خطوط تقليدية سياسية أو أدبية جلها لا يأبه بالرواية. ثم ظهرت في التسعينيات دور نشر ناشئة سيكون لها شأن كبير في ما بعد: "الساقي، المدى، والجمل" أما الداران الكبيرتان والأشهر ذلك الوقت هما دار الآداب للراحل سهيل إدريس، ودار رياض الريس للراحل يوم أمس الكاتب والصحافي رياض الريس، من دون أن ننسى داراً أخرى كبيرة أيضاً هي المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لكنها كانت من دون سياسة واضحة في النشر، شيء أقرب من شخصية ماهر كيالي، المنفتح، وغير الآبه بالأفكار مهما كانت هذه الأفكار، ورسخها بالاعتماد على نوعية فاخرة في الطباعة، وسهولة كبيرة في التعامل. 

أما دار الآداب فأمرها مختلف جداً، فهي دار عريقة نشأت في الخمسينيات من القرن الماضي، في إطار الإيديولوجيا القومية العربية التقليدية ومثلتها سياسيا وثقافيا، مدعومة من قبل الكثير من التيارات اليسارية التي لم تتمكن من إنشاء دار نشر بقوة ومكانة الآداب، فلم تكن الفارابي أو ابن الرشد، الداران اليساريتان بشكل حصري ذلك الوقت، في المستوى الفني ذاته. وكان من الممكن أن تتحول مجلة شعر ودار نشر شعر إلى دار كبيرة ممثلة للتيارات الليبرالية العربية التي نشأت في السياق الاجتماعي والثقافي اللبناني كما أراد لها ذلك الوقت يوسف الخال، وقام فعليا بطبع مجاميع من الشعر عن دار شعر، لكنها اندحرت سياسياً وثقافياً أمام صعود الناصرية أولاً، ومن ثم أصبحت نسياً منسياً بعد نكسة حزيران التي أدت إلى صعود الحركة القومية العربية واليسار والنزعة المناهضة للغرب، أي سيادة دار الآداب على المشهد الثقافي بالمطلق تقريباً.

ظهرت دار رياض الريس في أخطر مرحلة سياسية، في العام 1987 وفي هذا الفضاء المأزوم من الحرب الأهلية اللبنانية والحرب العراقية الإيرانية والحرب الأفغانية، وصعود قوى الاستبداد السياسي سواء أكان ذلك في القوى الإقليمية أو في العالم مع صعود التاتشرية والريغانية، من دون أن ننسى أن رياض كان مراسل مجلة شعر في لندن في الستينيات أيام كان طالباً في لندن، بمعنى آخر هو من الفضاء ذاته القائم على ثقافة إنكليزية ليبرالية وهي ثقافة راسخة تعمقت في لبنان في ذلك الوقت إزاء ثقافة فرانكفونية أكثر ليبرالية وأكثر تحرراً لكنها أقل التزاماً بالمعايير الفنية، ثقافة رسخها يوسف الخال، توفيق صايغ، جبرا إبراهيم جبرا، سلمى خضراء الجيوسي وفي المعظم من الفلسطينيين الذين أفادوا من المنح المقدمة من بريطانيا وأميركا.

ظهرت دار رياض الريس في لندن، خارج الرقابة العربية المتشددة التي بلغت أشدها في تلك السنوات، بحجم كتاب مميز، وطباعة وتصميم أغلفة أرساه محمد حمادة بشكل قريب من الكتب الأجنبية. وذهبت الدار إلى المواضيع الأكثر إثارة في الثقافة العربية، الجنس" الاستبداد السياسي، التاريخ الوضعي للدين، كما أنها أنشأت جائزة باسم يوسف الخال، نوع من اعلان الهوية والانتساب لتلك المرحلة المحذوفة من تاريخ الثقافة العربية، وأنشأت جائزة للرواية العربية، وأصدرت مجلة "الناقد" وهي المجلة الأكثر جرأة في طرح موضوعات ذات إثارة لم تكن مناسبة بالنسبة للصحافة الأدبية العربية.

هكذا كنا نرى دار رياض الريس من بين دور النشر العربية، نحن الجيل الجديد ذلك الوقت، كدار نشر كبيرة وبعمل محترف ومن بنية مجددة في ثقافة استهلكتها النزعات العقائدية والتقليدية والمحافظة. وفي العام 2000، أي قبل عشرين عاماً، كنت أرسلت روايتي الأولى بابا سارتر عبر البريد، مطبوعة بيدي ذلك الوقت، وكانت أشبه بتمرين الطباعة على الكومبيوتر، ومن بلد محاصر مثل العراق، وجاءني الرد بعد أسبوعين فقط بالموافقة على النشر، وسرعان ما وقعت أول عقد للنشر في حياتي.

كان النشر لدى رياض الريس ذلك الوقت جائزة كبيرة، بمجرد أن يصدر لك عمل في هذه الدار حتى تأخذ ورقة الاعتراف الكاملة ككاتب مكتمل. كان النشر في مجلة مثل الآداب، أو الناقد، أو مجلة مواقف، مناسبة كبيرة للاعتراف بالكاتب في محيطه أو في المحيط الثقافي العربي، فكيف النشر في دار مثل دار رياض الريس؟ لم أعرف بصدور روايتي إلا بعد ستة أشهر من نشرها، لكنهم لم يتركوا مكاناً لم يسألوا فيه عني لارسال المكافأة المالية ونسخ الرواية. كان ذلك الوقت محمد الجعيد هو المسؤول المالي، والقاص اللبناني عماد العبدالله هو المحرر الأدبي. كانت تتناهبني الرياح يميناً وشمالاً ذلك الوقت على ضفاف المتوسط، وحين عدت إلى عمان وجدت الرواية قد صدرت من ستة أشهر وقد منعتها الرقابة الأردنية بعد فترة من توزيعها. بعد عامين من صدور روايتي "بابا سارتر"، أصدر لي رياض الريس روايتي الثانية "الطريق إلى تل مطران" بطبعة مميزة أيضاً، وما كان ممكناً لها أن تصدر في دار نشر أخرى بسبب موضوعها، وقد روج لها كعمل مكتوب بتأثير الأجواء الإنكليزية، وهي الفكرة الأثيرة ربما عليه، ولم أكن أفكر بها عند كتابتها، لكنه كتب هذا في غلاف الرواية.

لم أترك الدار إلا في العام 2005 وانتقلت تماماً إلى المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فأثار قراري هذا غضب رياض، وعزف عن الاتصال بي بعدها، بل لم يردّ على اتصالي حين حاولت الاتصال به لتبديد غضبه. لم أكن أعرف كيف أشرح له الأمر من دون أن أغيظه. فقد كنت أجد التعامل مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر، أسهل، لما يتصف به ماهر كيالي من أريحية ودماثة، كما أن التعامل مع ناشر لم يكن كاتباً أسهل بكثير من التعامل مع الكاتب-الناشر الذي تختلط لديه هذه بتلك. كنت أخوض نقاشات مرات مع رياض الريس، فيها الكثير من الحدة، الأفكار القومية التقليدية، طاعون المثقفين العرب، ووضعك وكتاباتك أحياناً في ميزان الكاتب قبل ميزان الناشر، مع أني أحسب لرياض الريس بأنه لم يتدخل مطلقاً في كتابتي إلا بتغيير بسيط في جملة او جملتين. لكني كنت أجد الأمور مع ماهر كيالي تسير بشكل أسلس، فقد كنت أنا من يقرر موعد نشر كتابي وطريقة نشره وتوزيعه، وكان يستجيب لكل طلباتي، كما أني ارتبطت بصداقة عميقه مع عبد الوهاب كيالي ابنه، وكل هذا جعلني أجد راحة كبيرة في المؤسسة وأعزف تماماً عن النشر لدى رياض الريس الذي لم يتبدد غضبه مني إلا بعد سنوات، حينما التقيته في عمان فدعاني على عشاء في مطعم فاخر، في واحدة من أصياف عمان الجميلة، وانخرطنا كالعادة هو وأنا في نقاش كلانا نجيده وهي الحياة الاجتماعية والمخفي من حياة السياسيين والأدباء والفنانين في العالم.

(*) مدونة نشرها الروائي العراقي علي بدر في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024