حاوره: محمد حجيري
بكل بساطة، الأمر يتعلق بوظيفة يقوم بها المرء، وحين يتعلق الأمر بمن تُطلق عليه صفة "المثقف"، فلا بدّ أن يكون كاتبًا أو أستاذًا جامعيًا أو صحافيًا أو مخرجًا سينمائيًا أو محاميًا أو طبيبًا الخ. إن فكرة رفع المثقف فوق مستوى الوظيفة الدنيوية، ترجع ربما إلى فترات أُحيط بها الكهنة بهالة من القداسة، أو "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟". من الطبيعي ألا يستوي العالِم مع الجاهل، لكن في جميع الأحوال، فإن العالِم هو وظيفة أو حرفة. رغم التمييز بين الوظيفة والحرفة. فالوظيفة هي أن تكون أستاذًا في مدرسة، أما الحرفة فهي أن تكون عضوًا في تنظيم "حرفي". وفي التداول الشائع، فإن الحرفة تشير إلى الصنائع اليدوية عادة، وهذا غير المقصود في عنوان الكتاب.
والتمييز الذي ينبغي أن نأخذ به، والذي أتبناه، هو التمييز بين الوظيفة والدور: فأن تكون أستاذًا في قرية، هذا يعني أنك تمارس تدريس الطلاب، أما الدور فهو حين يلجأ أهالي القرية اليك لحل مشاكلهم أو استشارتك في شؤونهم.
كل الذين يتحدثون عن المثقف إنما يتحدثون عن دوره عادة مع إهمال لوظيفته. وفي كل الأدبيات التي نقرأها، نجد مطالبة للمثقف في أدوار تتجاوز قدراته، كأن يكون رائيًا موجهًا وسياسيًا ونصيرًا لقضايا، من دون التفكير في وظيفته الأساسية التي جعلته في أنظار العامة مثقفًا، إلى درجة إهمال الوظيفة واعتبارها شأنًا ثانويًا. والمطلوب بالدرجة الأولى هو عودة المثقف إلى وظيفته، وإحسانه القيام بها. فلا يمكنك أن تكون أستاذًا جامعيًا ضئيل الشأن وضئيل الإنتاج، وتكون صاحب دور اجتماعي أو سياسي بارز.
- تقول: "كانت مشاريع التحديث وما رافقها من انفتاح على الأفكار الأوروبية هي التي أنتجت هؤلاء النهضويين أمثال الطهطاوي وخير الدين التونسي وبطرس البستاني، ولولا ذلك لأصبح الطهطاوي شيخًا أزهريًا، والتونسي ضابطًا من جملة عسكر الباي، ولتحوّل البستاني إلى الكنيسة اكليركيًا أو كاتبًا لدى أمراء جبل لبنان؟
أعتقد أن هذا بالضبط ما يدفعنا إلى البحث عن أصول المثقف التنويري أو النهضوي، وإذا أخذنا فترة النهضة في القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين، فإننا إزاء شخصيات كانت تجمع بين التكوين التقليدي والتكوين الحديث. وما كانوا يجدون تناقضًا بين تكوينهم التقليدي وبين تبنّيهم لقيم الحداثة، وهذه هي ميزة عصر النهضة. وينطبق الأمر طبعًا على دعاة الإصلاح الإسلامي، أمثال محمد عبده في مصر، ورشيد رضا لبناني الأصل، والطاهر بن عاشور في تونس، وابن باديس في الجزائر، وعلال الفاسي في المغرب. كانت الاصلاحية الإسلامية ذات تكوين تقليدي، لكنها تبنت ضرورة الانفتاح على القيم الحديثة والتجديد في الإسلام، والأهم أنها كانت في أساس الحركات الوطنية التي شهدتها البلاد العربية.
- تقول إن موضوع المثقف فرنسي بالدرجة الأولى. في أي خانة تصنف نصوص تشومسكي؟ وماذا عن أدوار سعيد الأكثر ضجيجًا في البحث عن المثقف ودوره؟
ينبغي العودة إلى المؤرخ جاك لوغوف، المتخصص في القرون الوسطى، للبحث عن جذور المثقف، خصوصًا في كتابه "Les Intellectuels au moyen âge"، لكي نفهم الجذور الوسيطة للحداثة.
أما في ما يتعلق بقولي أن فكرة المثقف تطورت لاحقًا في أوروبا، فيمكن أن نفهمها من خلال الاصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر الذي كان دعوة إلى التحرر من سلطة الكنيسة الكاثوليكية. وإذا كانت مناطق شمال أوروبا، والبيئة الجرمانية وكذلك الأنكلوساكسونية، قد تحررت من الكنيسة الكاثوليكية، فإن العالم اللاتيني ومن ضمنه فرنسا، بقي خاضعًا للكاثوليكية وسلطة رجال الدين. إذا أخذنا التاريخ الثقافي الفرنسي، فإن أبرز الفلاسفة والمفكرين كانوا دعاة تحرر من الكنيسة، من ديكارت إلى ڤولتير، إلى موسوعي القرن الثامن عشر إلى روسو وإلى الدور الذي لعبه "الفكر" في الثورة الفرنسية.
فكرة ارتباط رجل الفكر المثقف بالتنوير والدعوة إلى الحرية والليبرالية السياسية، هي ما نجده في التراث الثقافي الفرنسي، وصولاً إلى جان بول سارتر، وهو الذي في أواسط القرن العشرين كان أبرز المعبّرين عن فكرة المثقف الذي يضطلع بدور في نقض كل السلطات والدعوة إلى الحرية الخ.
في المقابل فإن المفكرين الألمان كانوا أبناء المؤسسة الجامعية، وهم الذين مهدوا لفكرة الدولة الألمانية، من فيخته إلى هيغل إلى ماكس ڤيبر الذي كتب عن "العلم والسياسة بوصفهما حرفة"، والذي يرفض أن يكون الجامعي داعية لأي صنف من الشعارات السياسية.
ينبغي أن نشير هنا إلى غرامشي، صاحب "الأمير الحديث" في إشارة صريحة إلى كتاب "الأمير" لميكياڤـيللي. والذين ترجموا أعمال غرامشي إلى العربية، يضعون أعماله في صلب الفكر الماركسي، لكنهم يهملون انغماسه في الثقافة الايطالية اللاتينية الكاثوليكية. إن نظريته عن "المثقف العضوي" لا تُفهمَ إلا في ضوء التراث الكاثوليكي الذي يشير إليه، كما يشير إلى دور الكهنة. أراد غرامشي أن يبني الحزب الشيوعي على طراز الكنيسة (في أدوارها المتعددة والشاملة) و"المثقف العضوي" ليس سوى الكاهن في هذه الكنيسة.
من جهة أخرى، لا بدّ أن نذكر بأن نموذج المثقف الفرنسي، كان قد انتشر عالميًا وخصوصًا في بلدان العالم غير الأوروبي، آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث كانت النُخب المتعلمة التي تلقت ثقافة فرنسية، وهي اللغة العالمية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قد تأثرت بالثقافة الغربية وتاريخ فرنسا الثوري وسير المفكرين أمثال ڤـولتير وروسو. وهؤلاء المتعلمون كانت مجتمعاتهم تطالبهم بأدوار اجتماعية وسياسية.
هذا النموذج الفرنسي وصل إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإذا كنت تسألني عن نعوم تشومسكي، الشهير في بلادنا بسبب معاداته للصهيونية، فإنه أقرب إلى النموذج الفرنسي، ويمكن مشاهدة المناظرة بينه وبين ميشال فوكو للتأكد من ثقافته الأوروبية.
أما ادوارد سعيد فإنه مثال للأستاذ الجامعي الذي قام بوظيفته على خير وجه، فهو أستاذ أدب، وكتاباه الشهيران "الاستشراق" و"الثقافة الامبريالية" هي كتب في النقد الأدبي. لكن مشكلة سعيد أنه استُخدم سياسيًا. في مقدمة كتابه "الثقافة الامبريالية"، يقول بأن "الاستشراق" قد حاز على اهتمام عالمي كبير، لكنه لم يحظ بالاهتمام من جانب العرب. وهذا الكلام صحيح وغير صحيح، لأن المقالات التي كُتبت عن الاستشراق والتي تضمنت مدائح بدفع من منظمة التحرير الفلسطينية كانت كثيرة، لكن هذه المدائح كانت غير ذات قيمة علمية، وفي أغلب الأحيان من جانب أشخاص لم يقرأوا الكتاب. يقول إدوارد سعيد، أنه حين زار فلسطين، اتُّهم بأنه مستشرق. وهذا بالضبط ما يعنيه الاستخدام السياسي للإنتاج الأكاديمي أو الفكري أو الأدبي. فالذين مدحوه في البداية هم الذين عادوا واتهموه بالاستشراق.
المشكلة الأخرى التي تتعلق بكتاب الاستشراق، أنه استُخدم أيضًا من جانب تيارات ممانعة ومعادية للغرب. وجرى "تأويله وتفسيره" على غير ما قصد المؤلف.
- لماذا غابت عن الكتّاب، شخصيات مثل أنطون سعادة وميشيل عفلق وحسن البنا؟ وماذا عن ياسين الحافظ الذي تحدث عن دور المثقفين؟
بالنسبة للشخصيات الثلاث، البنا وسعادة وعفلق، يمكن أن نطلق على كل منهم اسم "المثقف المضاد". كل من هؤلاء كان مؤسِّسًا لحزب يملك عقيدة شاملة غير قابلة للنقد والنقاش. وكل واحد منهم كان يرفض التعددية الفكرية والإثنية. وكل عقيدة (أيديولوجيا) كان لديها تصور عن أمة متكاملة لا وجود فيها لحرية الفرد وإنما الحرية هي للأمة.
لقد نشأت وتطورت هذه الأحزاب في فترة تراجع الفكر الليبرالي في العالم الغربي، وبروز الايديولوجيات القومية والشيوعية الصلبة، فكانت صدى لها. وقد تطورت هذه الأحزاب، القومي السوري والبعث والأخوان المسلمين، مع تراجع التجارب الليبرالية العربية الوليدة. إن الايديولوجية في نهاية المطاف، فكر مضاد للأفكار ومعادية للثقافة (مع الدعوات إلى إحراق الكتب)، والايديولوجية القومية أو الدينية أو الشيوعية هي اقصائية لا تقبل الآخر.
يهمني ان أشير هنا إلى الآثار الفادحة السلبية للايديولوجيات القومية والشيوعية والدينية. إذ سيطرت على التيارات الثقافية وأقصت التفكير الحرّ والنقدي. وامتد الأثر السلبي لهذه الايديولوجيات إلى الأدب والشعر بحيث يصنف الشعراء بحسب انتماءاتهم الحزبية، وتحولت الأفكار إلى شعارات. لا يمكن أن نعثر على كتاب له قيمة فكرية خلال السنوات الثمانين الفائتة كتبه لبناني أو عراقي أو سوري. لقد أسهمت هذه الأحزاب في تأخرنا وبؤسنا الفكري.
أما ياسين الحافظ الذي رحل مبكرًا فقد نشأ بعثيًا، وهو الذي حدثنا في سيرته المختصرة التي كتبها عن "إحراق الكتب" الأجنبية حين كانوا يتظاهرون تحت الشعارات القومية. لقد أراد ياسين الحافظ أن يتحرر في سنواته الأخيرة القصيرة من ثقل الايديولوجيا. ولهذا تلقف كتاب "الايديولوجيا العربية المعاصرة" لعبدالله العروي وشجع على ترجمته. وكان يعوّل على دور المثقف في نقد الايديولوجيا في كتابه "الهزيمة والايديولوجيا المهزومة".