"أنامورفوسيس": من فلسطين إلى كشمير

شادي لويس

الجمعة 2019/10/04
الجمجمة في لوحة "السفيرين" للفنان هانز هولبين الابن، ربما تكون النموذج الأشهر لاستخدام تقنية "أنامورفوسيس" في فنون عصر النهضة، ونقطة الانطلاق للتوسع في استخدامها لاحقاً، لأغراض فنية عديدة. فتأثير التوهم البصري الناتج عن عملية إسقاط صورة بهدف تشويهها، يمكن قلب تأثيره بالنظر إلى الصورة المشوّهة من موقع محدد وفي زاوية معينة، بحيث يمكن التعرف حينها على الصورة الأصلية. وأتاحت التقنية هذه، والتي يمكن ترجمتها إلى "إعادة التشكيل"، إمكانات مبتكرة للتلاعب بالأبعاد، التشوية المتعمد، وتنويع زوايا الرؤيا، ودمج مناظير متعددة على سطح واحد، أو وضعها جنباً إلى جنب على اختلافها، والأهم إشراك المتلقي في عملية إعادة بناء الصورة، وكشف ألغازها، ودفعه للحركة يمينا ويساراً وقرباً وبعداً حتى يضبط زاوية الرؤية الأصلية.. وفي كل خطوة يرى منظوراً مختلفاً لما يحاول اكتشافه.

يوظف الفنان الهندي، برانيت صوي، التقنية نفسها في معرضه "أنامورفوسيس: ملاحظات من فلسطين، شتاء في وادي كشمير"، والمقام في غاليري "موزايك رومز" في لندن. فالمشاهدات والصور وتسجيلات الفيديو، التي جمعها صوي أثناء رحلته في مناطق السلطة الفلسطينية وإسرائيل في يونيو/حزيران 2019، تركت لديه قناعة بأن أي محاولة لتصوير المنظر الطبيعي والأفق والتخطيط المديني للأراضي المحتلة، سيحمل في داخله موقفاً سياسياً. لذا يشوه صوي تجسيده للأفق الفلسطيني، يمطّه ويلويه، ليترك للمشاهد مهمة إعادته لشكل أصلي، أو ربما التأمل والشك في مفهوم الأصل وزوايا الرؤية. 


في الحجرة الأولى من المعرض، يقدم فيلم "يلا ياسمين!" تتبع غير خطّي لرحلة صوي، والتي يركز فيها كعادته في أعماله السابقة، على "العمل". يزور الحقول ومصانع زيت الزيتون والأسواق. وبالقرب من مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية، تلتقي الكاميرا صاحب محل أدوات البناء الفلسطيني، المبني من دون ترخيص وهو ما قد يسبب له مشاكل مع سلطات الاحتلال الإسرائيلية، لكن زبائنه هم سكان المستوطنة، ويبيع لهم مواد البناء ليبنوا بيوتها. في السوق يلتقي صوي مسنّات فلسطينيات، يتحدثن الإسبانية بطلاقة، فهنّ عدن من فنزويلا لحراثة الأرض، والبنات الصغيرات يحاولن تعلّم العربية، أما الرجال فباقون في الشتات. من مسافة ليست بعيدة، يمكن رؤية خط سكة الحديد الإسرائيلية، بموازاة الجدار العازل، ويعلق صوي: "لا أتصور أن أرى قطاراً مثل هذا كل يوم، وأكون محروماً من ركوبه".

في عكا، وأمام البحر، يلقي بواحده من تعليقاته وهو يتابع الشباب يقفزون في الماء: "يسبحون هنا في المحيط". يقع صوي في خطأ غير مقصود وكاشف أيضاً. فعدا عن ضآلة معرفته بجغرافيا فلسطين، فإنه يراها بمنظوره الهندي. فالبحر المتوسط بالنسبة إليه، هو "المحيط" بلا شك. في القسم الثاني من المعرض، يتابع الفنان تلك المقابلة والإحلال بين الموضوع الهندي والفلسطيني. ففي أغسطس/آب الماضي، وبينما كان يُعدّ للمعرض، أعلنت حكومة الهند إلغاء الحكم الذاتي في إقليم كشمير، وقطعت شبكة الإنترنت والخليوي ومعظم خطوط الاتصالات الأرضية. ويعرض صوي عدداً من قطع البورسلين ذات الأشكال المقطعة من صور في وسائل الإعلام، تتناول الأحداث في كشمير، ومزينة بزخارف كشميرية تقليدية.

الفارق بين تفجر أزمة كشمير مع استقلال الهند في العام 1947، وبين النكبة الفلسطينية، عام واحد فقط. يظل الفارق بين القضيتين واسعاً جداً، لكن كلاهما من تبعات الانسحاب الكولونيالي البريطاني، وتصوّر عن الدولة الأمة المؤسسة على أحادية العرق أو الدين. وبالفعل كانت عمليات التهجير القسري والمذابح الأثنية والتبادل السكاني بين الهند وباكستان، النموذج الذي حلم به مؤسسو إسرائيل، وسعوا إلى تنفيذه في فلسطين لاحقاً. وتشير الزخارف الكشميرية التقليدية إلى علاقات أوطد من هذا وأطول. فالمنمنمات النباتية والأشكال الهندسية المكررة تشي بوضوح بصلة قوية بالزخارف الفارسية، التي انتقلت إلى الهند أثناء الحكم المغولي، والتي تتشارك في كثير من جمالياتها مع فنون الهلال الخصيب في الحقبة الإسلامية، بل وربما قبلها أيضاً.

يسعي "أنامورفوسيس"، بنِيَّة صادق، لمزاوجة فنية بين هنا وهناك، وينجح بشكل لا بأس به في جمع "ملاحظات عن فلسطين". لكن ما يكشفه، عن غير عمد، وهو الأهم، أن حقبة ما بعد الاستقلال، لم تعد سوى ذكرى بعيدة. فالعلاقات الثقافية والفنية مع الهند وغيرها من دول "عدم الانحياز"، والتي كانت ترسيخاً للتضامن مع القضية الفلسطينية وقضايا الشعوب المقهورة، قد انتهت، ولم يبق منها سوى محاولات فنية فردية تخلط بين البحر والمحيط. فيما تفقد قضية فلسطين مركزيتها حتى في محيطها العربي، وتصعد القومية الهندوسية في الهند التي تجد قيادتها اليوم في إسرائيل، نموذجاً يحتذى به، في التطهير الإثني، والتوسع، وفرض الأمر الواقع. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024