"لا بد أنها الجنة" لإيليا سليمان... فلسطين بلا فلسطين

شفيق طبارة

الثلاثاء 2019/07/30
في غرفة الانتظار في مكتب منتج أميركي كبير، يقدمون إيليا سليمان للمرأة المستعجلة بجملة "إنه يصنع فيلماً عن السلام في الشرق الأوسط، لكنه فيلم كوميدي" أجابت المرأة، "نعم، هذا مضحك بحد ذاته". سليمان يغادر من دون أي وعد بالتمويل "حظ سعيد في مشروعك"، تختم المرأة، بلهجة ود زائفة. لحظات مأسوية مثل هذه تتضاعف في الفيلم. "لا بد أنها الجنة" ربما هو نسخة خيالية عن جهود المخرج لإنتاج هذا الفيلم. المخرج الفلسطيني إيليا سليمان يعود بأول فيلم روائي طويل له منذ عقد، بجولة بين مدينته الناصرة وباريس ونيويورك لإجراء اجتماعات لتصوير فيلم. المخرج الفلسطيني يراقب العالم كيف يزداد سخافة وعنفاً. ربما يرى سليمان ويرينا أن الكوكب بأسره أصبح فلسطين ضخمة، وأن الكوميديا البشرية تكمن في تجربة البقاء على قيد الحياة.

مخرج فيلم "يدٌ إلهية" (جائزة لجنة التحكيم مهرجان "كانّ" 2002) و "الزمن الباقي" (2009) عاد إلى "كانّ" بفيلمه الجديد "لا بد أنها الجنة" وحاز جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين وتنويهاً خاصاً من لجنة تحكيم المهرجان. يروي الفيلم، بطريقة خفية وقوية ممزوجة بروح الدعابة، قصة تتجاوز هذا الكوكب بدوله وسياساته وأديانه وسلطاته واختلافاته الثقافية. اختلافات تُلاحظ بعين ثاقبة وبنظرة فيها شيء من السخف، تقدم بطريقة سينمائية فريدة ومفاجئة. فالمخرج، كما في أفلامه السابقة، يكون تقريباً البطل الصامت. استثمر سليمان هذا النوع من الفكاهة التي تأتي من بناء صور وكماليات مرئية، دون دعم الحوارات أو تفسيرات من أي نوع. "سكتشات" تلتصق ببعضها البعض بحرية، تشكل بانوراما سياسية للقضية المطروحة. أسلوب يشبه مخرجين/ممثلين كلاسيكيين مثل شابلن وكيتن، وحديثين مثل جاك تاتي. حوار مباشر مع المفارقات المرئية لمخرجين معاصرين مثل روي أندرسون وأكي كوريسماكي. قد تبدو المشاهد مرحة بقدر ما هي عنيفة. لا مجال للسذاجة في الفيلم، يسافر سليمان الى هذه الأماكن التي يفترض أنها تطورت؛ فقط لإدراك أنها تعاني مشكلات اجتماعية خطيرة مثل تلك الموجودة في وطننا. فهل انعدام الهوية والفضاء الإقليمي يمثل مشكلة فقط للشعب الفلسطيني الذي فقد هويته تحت أنظار العالم، أم أننا في عالم لا مكان لنا فيه؟ كيف يمكننا استعادة شيء ما من جذورنا في عالم نفقده جميعًا؟ يمشي سليمان، يلاحظ، لا يضحك، لا يبكي، لا يصرخ، لا ينفعل. يلقي نظرة فقط.
 
يبدأ الفيلم بمشهد افتتاح مضحك ورائع، لكن بخوف، وسؤال تملكني "هل غاب سليمان عشر سنوات ليعود بفيلم وأحداث تشبه الفيلم الذي سبقه؟" لم أنتظر طويلاً لأجد الجواب. سليمان يتكرر، لكن بطريقة فريدة تشعرك أنه جديد. تلك البداية ستفتح المجال للمشاهد التالية. سليمان بقبعته وقميصه وشاله. يراقب كل شيء وينطق بكلمات قليلة جداً. يراقب العالم الذي يبدو أنه يتصرف فقط لأجله؛ تعابير وجهه لا تتغير تقريباً لكنه يقول كل شيء. الأناقة السينمائية التي يروي فيها سليمان قصته ومشاهده وأحداثه تسافر في ثلاثة مواقع: الناصرة (مسقط رأس المخرج)، باريس الفارغة والكئيبة تقريباً، ونيويورك العسكرية. ليس من المنطقي أن أروي القصة أو المواقف التي تحدث بالتأكيد لأنها مفسدة للكثير من المرح والضحك الصريح والبكاء أيضاً. المهم أن كل شيء في الفيلم يشعرك أنه، على الرغم من الاختلافات المعمارية والثقافية، أصبح العالم نسخة واحدة متطرفة، عالم عنيف مثير للسخرية يساهم في هذا الشعور الاصطناعي في خلق الفكاهة من خلال الغرابة.
 

يمكن أن تكون بعض الاستعارات والصور في الفيلم واضحة إلى حد ما، ومضحكة للغاية في التنسيق الذي وضعه سليمان. فقد تبدو المشاهد، خصوصاً مشاهد نيويورك، كأنها مزحة تلفزيونية بحتة. لكنها، من المكان الذي يقف فيه سليمان ويراقب، يكون لها معنى آخر، ووزن مختلف. فالتطرف السياسي للغرب قصة أخرى، عندما يكون الشخص الذي يراقبها ويخبر عنها هو شخص من الشرق الأوسط. في هذا الفيلم نلاحظ أن الشخصية والانسان في العموم يرتدي البلد والهوية الثقافية التي نشأ عليها. على هذا، فإن الكوكب بأسره يشبه بلد المرء بنظرات ميكانيكية مختلفة. هذا ما يحصل في فيلم سليمان، الفكاهة التي يروي فيها سليمان قصته قد لا تحل المشاكل، لكنها تعمل على مواصلة التسامح مع شرور هذا العالم.

نحن نعرف ما يمكن لإيليا سليمان القيام به في مشاهد الفكاهة، غير أن هذه الفكاهة تأتي من مرارة وحدّة ملاحظة لواقع اجتماعي سياسي فظيع. بالنسبة إلى سليمان، الأفكار تكفي لتفادي ولإعطاء نظرة تشاؤمية (من دون فقدان الإنسانية) حول العنف وسوء الفهم والتناقضات والمفارقات في بلده وفي أماكن أخرى من هذا الكوكب. سليمان يقول الكثير من الأشياء القليلة، يجعل التقشف ذكاء وسلاحاً قوياً، ومن الهزل والخفة نوعاً سينمائياً فريداً؛ نظرة من "الأنا" إلى "الآخرين".

يراقب سليمان العالم والآخرين بِحيرة. لا يتحدث، الجملة التي يقولها هي لسائق تاكسي في نيويورك عندما يخبره بعبارة مختصرة "أنا فلسطيني..."، يبدو بعد تلك الجملة سائق التاكسي في حيرة كأن الفلسطينيين جزء من الأساطير أو ربما ليسوا من العالم الحقيقي. "لا بد أنها الجنة" هو انعكاس أزمة الهوية. سليمان من مكان، لكن بالنسبة إلى كثيرين هو من مكان آخر. في الفيلم يوضح لنا أن الأماكن غير موجودة في كل مكان. سليمان يتحدث عن كوكب مريض بجنون العظمة وغير إنساني، يستثمر صورة كاريكاتورية عن البشر. بهذه الطريقة يضع الاصبع على الجرح، لكن بخفة وبلا هوادة، كنكتة. "الكوميديا الإنسانية" كما يقرأها سليمان في الفيلم، قد تكون وصفاً جميلاً للفيلم ككل الذي يُفتتح ويُختتم بأفضل مشهدين. لا ينوي سليمان الفرار من فلسطين بل يحلم فقط بتطويرها ويتطلع، في بساطة صوره الصامتة، إلى المستقبل الذي يتمناه لشعبه. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024