في انتظار موكب توت عنخ آمون

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2021/04/13
بعد "النجاح" الذي حققه موكب المومياءات الملكية، أعلنت وزارة السياحة المصرية أنها تعدّ موكباً آخر لنقل قناع توت عنخ آمون والتابوت الخاص به من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى المتحف المصري الكبير المجاور لأهرام الجيزة.

دخل نابوليون بونابرت مصر على رأس جيشه الكبير في العام 1798، واصطحب معه فريقاً كبيراً من العلماء لدراسة آثار مصر وتقاليدها وعاداتها، وكانت نتيجة هذا البحث الميداني موسوعة من عشرين جزءاً عنوانها "وصف مصر"، هي في رأي أهل الاختصاص الإنجاز الحضاري الأكبر لهذه الحملة العسكرية الفاشلة. كشف علماء فرنسا عن مجد وادي النيل الضائع، وافتتانهم بأسرار آثارها ومعالمها المنسية، ومنهم من رأى أن هذه الفنون أكبر وأعظم من كل ما ألفوه في بلادهم. ولعل أبلغ ما قيل في هذا الصدد ما كتبه دومينيك فيفان دونون في دفاتره المصرية: "حملني الصباح إلى هذه الآثار، واقتلعني عنها المساء قلِقا غير راض. رأيت مئة شيء، وفاتني ألف شيء. دخلت لأول مرة على محفوظات العلوم والفنون. هي العلوم والفنون وقد تآلفت مع ذائقة رفيعة لتزيين هيكل إيزيس. هنا لعلوم الفلك والأخلاق والماورائيات أشكال تزين سقوفاً وعقوداً وأسسا، كما تجمّل عربساتنا الفارغة ردهاتنا الصغيرة".

مثل دومينيك فيفان دونون، افتتن العديد من الفنانين الفرنسيين بالصور المصرية، وتحوّل عدد كبير منهم إلى إستشراقيين يحملون إلى بلادهم مشاهد تجسّد "الحلم الشرقي". في القرن التاسع عشر، تطورت العلاقات بين مصر وفرنسا، وكانت أهم انجازاتها حفر قناة السويس بين العام 1859 والعام 1869. على الصعيد الثقافي، ازدهر علم المصريات مع تعيين الفرنسي أوغست مارييت باشا مديراً لمصلحة جديدة أنشأتها الحكومة المصرية، وسمّتها "مصلحة الآثار". جاء مارييت إلى مصر في عهد الخديوي سعيد، ولم يتردّد في قبول هذا المنصب، فاستقال من عمله في متحف اللوفر، وكرّس حياته لدراسة آثار مصر وصونها، وأنشأ متحفاً في بولاق نقل إليه العديد من القطع الأثرية التي عُثر عليها في المعابد والمقابر، واستمر في العمل حتى وفاته في 1881، فخلفه غاستون ماسبيرو الذي أكمل من بعده الحفريات التي كان يقوم بها في سقارة، وأنشأ المعهد الفرنسي للآثار.

بالتزامن مع نمو علم المصريّات بشكل متعاظم، وتحوّله إلى حقل للأبحاث المتلاحقة في أوروبا والولايات المتحدة، شهد الغرب نمو حركة أخرى عُرفت باسم الهوس بالمصريّات، وتمثّل هذا الهوس في ابتكار منتجات تحمل الطابع المصري بشكل أو بآخر. امتدّت هذه الموجة بشكل واسع إثر اكتشاف ضريح توت عنخ آمون في عام 1922 حيث كان لهذا الحدث تأثير كبير على الثقافة الشعبية في مختلف أنحاء العالم الغربي. بقي هذا الضريح في الظلمة طوال 3300 عام، من دون أن يمسّه أحد، إلى أن اكتشفه عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر في عام 1922، وذلك بعد سلسلة من حملات تنقيب موّلها اللورد كارنارفون، الثري المولع بالمصريات.

ولد هوارد كارتر في كنف اسرة متواضعة، وتلقّى دراسة محدودة، غير انه عُرف بقدراته الفذة في العمل الميداني، فتبنّاه العالم البريطاني الكبير پيرسي نيوبيري، مدير "جمعية استكشاف مصر" التي عملت في منطقة دلتا ووادي النيل. كان كارتر يومها في السابعة عشرة من عمره، وواصل العمل في مواقع مصرية عديدة، وأثار إعجاب غاستون ماسبيرو، فعيّنه مشرفاً في المجلس الأعلى للآثار، فانتقل للعمل في وادي الملوك في مطلع القرن العشرين، واكتشف بقايا ضريحي الملكة حتشبسوت والملك تحوتمس الرابع. في هذا الوادي، التقى كارتر باللورد كارنارفون، وبدأ بالعمل لحسابه في 1907. قاد العالمان حملات عديدة بحثاً عن ضريح توت عنخ آمون، وكانت الاكتشافات متواضعة للغاية، وفي 1922، لم يعد اللورد كارنارفون يرغب بإنفاق المزيد من المال لذلك، فناشده كارتر بأن يمهله سنة إضافية، فكان له ذلك. في تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، اكتُشف أخيراً الضريح المنشود. وفي قلب الظلمات، سأل اللورد كارنارفون عالم الآثار كارتر عند افتتاحه الباب الذي يقود إلى قبر الفرعون الشاب: "هل ترى شيئاً؟". فأجاب: "نعم، أشياء رائعة". تجاوزت الغلة كل التوقعات، وتمثّلت بأكثر من خمسة آلاف قطعة تطلب نقلها شهوراً، ومعها بلغت شهرة توت عنخ آمون الآفاق، ولُقّب كارتر بالبطل.

رافقت الصحافة العالمية الحدث بحماسة بالغة، وعبّرت عن استيائها الشديد حين وقع اللورد كارنارفون مع صحيفة التايمز البريطانية عقداً بخمسة آلاف جنيه استرليني يؤمن لها الحق الحصري بنشر أخبار هذا الاكتشاف. في المقابل، عبّرت الصحافة المصرية عن سخطها غضبها، وقالت إن المقبرة تخص ملكاً مصرياً، لا ملكا بريطانيا. في أوروبا، كما في الولايات المتحدة، تحوّل الهوس بالمصريات سريعاً إلى هوس بتوت عنخ آمون، وتجلّى ذلك في سائر وجوه الفنون والثقافة في حقبة العشرينات، من الهندسة المعمارية، إلى الأزياء والمجوهرات وتسريحات الشعر، إلى قطع الأثاث وسائل المقتنيات، وصولا إلى الملصقات والإعلانات التجارية والألعاب. هكذا اضحى الملك المصري الذهبي مادة استهلاكية تعود بالفائدة الجمة على مختلف الأسواق التجارية، ودخل السينما والمسرح والغناء. لقّب المسرحي الأميركي نفسه بـ"كارتر العظيم"، وطبع هذا الاسم على الإعلانات الخاصة به، كما أضفى على هذه الإعلانات طابعاً مصرياً. كذلك، أدى هاري فون تيلزر أغنية "الملك توت القديم" التي حققت نجاحاً، وأطلق الرئيس الأميركي هربرت هوفر على كلبه كذلك اسم "الملك توت".

بقي هذا الاسم حياً في الذاكرة الجماعية الغربية منذ ذلك الحين، وجذبت المعارض التي خصّصت له الملايين من الزوار. حمل أول هذه المعارض عنوان "كنوز توت عنخ آمون"، وتنقل في مدن عدة من الولايات المتحدة وكندا بين 1961 و1966. في المقابل، شهدت اليابان معرضا مماثلا تنقل في ثلاث مدن بين 1961 و1963، وجذب ما يقارب الثلاثة ملايين زائر. بعدها شهدت باريس معرض "توت عنخ آمون وزمنه" في 1967، ثم شهدت لندن في 1972 معرضا آخر حقق أكبر نجاح في تاريخ المتحف البريطاني، وانتقل بعدها بين 1973 و1981 إلى بلدان أخرى، منها روسيا، الولايات المتحدة، كندا وألمانيا. في القرن الحادي والعشرين، شهد الغرب سلسلة أخرى من المعارض، أولها معرض "توت عنخ آمون والعصر الذهبي للفراعنة" بين 2004 و2011، ثم "الملك الذهبي والفراعنة العظام" بين 2008 و2013، وتبعه "كنوز الفرعون الذهبي" بين 2018 و2021.

إلى جانب هذه المعارض التي حققت نجاحا جماهيريا مذهلا، شهد الغرب سلسلة أخرى من المعارض حوت نسخاً طبق الأصل عن الكنوز الأصلية. أقيم المعرض الأول من هذه السلسلة في مدينة دورشيستر البريطانية في 1986، وتبعه معرض في لاس فيغاس، ثم معرض تنقل من زيوريخ إلى ميونيخ إلى برشلونة. في 2014، نظم متحف أشمولين في أوكسفورد معرض "اكتشاف توت عنخ آمون"، وتميز هذا المعرض بتوثيقه الدقيق لاكتشاف الضريح الشهير، كما تميز بعضه بقطع تعكس حالة الهوس بهذا الملك في عشرينات القرن الماضي وفي العقود التي تلتها.

اليوم، يشكل موكب توت عنخ آمون المنتظر في القاهرة حلقة جديدة من حلقات هذا المسلسل المتواصل منذ قرن، ويشهد على ديمومة هذه الأسطورة وخلود ملكها الذهبي الذي رحل باكراً عن هذه الدنيا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024