مهدي زاناد خلف رسومه

روجيه عوطة

الثلاثاء 2020/07/14
في العام 2013، كان مهدي زاناد يمشي في مدينة مونتروي الفرنسية، وتنبه الى شيء ما في المباني من حوله يدعوه الى التوقف والنظر فيه. حدق زاناد، فتح دفتره الصغير، وبدأ وضعَ خطوط في أوراقه، خطوط مائلة، ومستوية، عامودية، وأفقية، ودائرة... خطوط على كل هندساتها، بحيث راح يستخلصها مما يظهر أمامه. يمشي زاناد، ويرسم، وفي أثناء ذلك، يخترع طريقته، التي تفيد بالتالي: يأخذ موقع المنتصف، على الحد بين ورقتي دفتره، الذي يمده بعينيه صوب الشارع، والساحة، والعمارة، وهذا، قبل أن يشرع في الرسم. من الممكن القول أنه بهذه الطريقة ينصف المكان، ليس بمعنى أنه يقسمه فحسب، بل إنه أيضاً يعطيه حقه، أي حقه في الضوء على وجه الدقة. فمن خلال استخلاص الخطوط من كل منظر، يمضي زاناد الى توزيع الضوء عليه بحسب ما يلائمه، ليكون مصنوعاً من فراغ بين خطوطه.

منذ مدة، عاد زاناد الى تجربته نفسها التي مارسها في مونتروي، لكن هذه المرة، في مارسيليا. فعندما زارها، قرر تحويلها الى دفتره وأوراقه، بطريقته نفسها. لكنه، وما أن باشر ذلك، حتى بدا له أن لهذه المدينة جواً خاصاً بها، من المتاح ملاحظته مباشرةً حين الاطلاع على الرسوم التي وضعها لها في كتابه "طوبو-غرافيات" (parentheses). فبين مونتروي ومارسيليا، ثمة ثلاثة أمور تغيرت على الأقل.

التغير الأول، جلي للغاية، ويتعلق باللون، فبالإضافة الى الأسود، وهو اللون الأساس والوحيد، هناك الأزرق. بالطبع، هذا التغير يتعلق ببحرية مارسيليا، لكنه، لم يبرز في نقش شاطئها، أو بيئتها، انما نواحيها الصناعية تحديداً. فزاناد لوّن هذه النواحي لكي يجعلها من مارسيليا، بحيث تبدو حيالها كأنها تضبطها، وهذا، في حين أن المدينة تتسم بكونها مفتوحة.

أما الأمر الثاني، فهو أن الخطوط، وفي بعض الرسوم، تغيب، وهذا لصالح انقلابها الى العتمة، الى تدرجاتها. بالتالي، تغدو المناظر المنقوشة، وبفعل العتمة هذه، في وشك زوالها، أو بالأحرى انطفائها، أو ابتعادها. قد يصح القول أن تحول الخطوط الى عتمة، تكثيفها على بعضها البعض، هو أن جزءاً من مارسيليا، من أحيائها الواقعة على بعض أرجائها البحرية، التي يمكن رؤيتها من بعيد، كأنها تتلاشى.

على أن التغير الثالث، يتعلق بالحد إياه، أي الذي كان زاناد، ومثلما فعل في مونتروي، يمرره من منتصف دفتره الى المنظر أمامه، أو يطابقه بين دفتره والمنظر ذاته (بين ورقتين-بين شارعين-بين شجرتين إلخ). فهذا الحد لا أثر له في رسوم مارسيليا، أو يكاد يزول منها، ليحل مطرحه شيء بعينه: المنفذ. فحين يجد زاناد منفذاً، سمته أنه يفتح كل المنظر، أنه يتيح للعيون التي تحدق فيه أن تنفذ الى بعده، لكن من دون أن تراه طبعاً، يُقدم على رسمه. على هذا المنوال، تتصف رسوم مارسيليا بأنها، واذا صح التعبير، طرقاتية. غير أن هذه الصفة تتصل بصفة أخرى لها، وهي ترتبط بموقع زاناد منها. ففي حال كان حيال رسوم مونتروي في منتصفها، فهو في رسوم مارسيليا، خارجها، أو على طرفها. وهذا، جعله، في بعض الأحيان، مجرد ناقل لها-نقل بلا توثيق، كما جعله، وفي أحيان أخرى، غائباً عنها بالكامل.

في الواقع، من الممكن القول أنه، وفي رسوم مونتروي، كان بمثابة وسيط بين المناظر وهذه الرسوم، وسيط يسهر على التوتر بينها. بيد أنه في رسوم مارسيليا، هو ليس الوسيط، لأن ذلك التوتر انتهى، وبالتالي، الرسوم صارت على اتصال تام بالمناظر، اتصال قد يأخذ شكل الانفصال أيضاً، كأن المناظر في الرسوم ليست هي المناظر التي تمثلها. لم يعد زاناد في المنتصف، صار خلف رسومه، ولعل سبب هذا أنه لم يسِر في مارسليا حين كان يضع خطوطه في أوراقه، بل توقف في طرقاتها، تاركاً لحركتها أن تحتل دفتره.

فمارسيليا، مثلما قدمها، هي، وتماماً على عكس تقديمه لمونتروي، مدينة متحركة، لا تتوقف ليرسمها، انما توقفه من أجل ذلك، وفي أثناء رسمه لها، تخفيه. بعد هذا، لا مبالغة في الإشارة الى أن الاستفهام الرئيسي الذي تطرحه رسوم زاناد المارسيلية، هو عن محله، بمعنى "أين يقف؟" لكي يبدي المكان من حوله، وبالفعل نفسه، كي لا يبدو فيه. لكي يلتقط حركته، وبالفعل نفسه، يتركه عليها. إنه كليشيه موت الرسام، لكن، في حين عمله، وليس في أثر إتمامه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024