شهداء الثورات.. أحياء على شاشات السينما

هشام أصلان

الأحد 2016/11/20
1
لا يزال ميدان التحرير قادرًا على إبهارنا بصور الـ18 يومًا. وذلك، رغم آلاف الصور التي رأيناها خلال ست سنوات منذ اندلاع ثورة يناير.

كلما تصور الواحد أنه تبلد عاطفيًا أمام تلك المشاهد، تثبت الصورة الحُلوة أنه لا. الكاميرا قادرة على تحريكك من الداخل. رومانسية موجعة لا نستطيع الهرب منها. أتذكر صرخة محمود درويش: "ارحمونا من هذا الحب القاتل".

هكذا فكرت، أثناء التقليب في ملحق فوتوغرافيا بتوقيع المُصور المصري محمد الميموني، أحد الذين وثّقوا وقائع حلم "التحرير" بصور شديدة الفرادة.

الملحق يختتم العدد الأول لمجلة "الفيلم"، بعد تغيير هيئة تحريرها. نعم، في مصر توجد مجلة بهذا الاسم. لم أسمع بها قبل تولي الكاتب الصحفي سامح سامي رئاسة التحرير، ربما لجهلي، ولكن عدد كبير من الأصدقاء، أيضًا، لم يسمعوا بها من قبل.

بصراحة، هنأت سامح كما هنأه كثيرون، ولم أتفاءل كثيرًا بأنه سيفعل شيئًا في مجلة شبه مغمورة إعلاميًا. لكن الذي حدث أن الإعلام و"السوشال ميديا" اهتمّا بأخبار صدورها. نحن في بلد قائم على الأفراد والمركزية بطبيعة الحال. المجلة كانت فصلية، لكن هيئة التحرير تطمح في إصدارها شهريًا.

2
"لو يقارن المرء بين السينما وبين فنون مبنية على الزمن، مثل الباليه أو الموسيقى، فإن السينما تظهر بوصفها الفن الذي يعطي الزمن شكلًا مرئيًا وحقيقيًا. ما ان يتم تسجيل الزمن على الفيلم حتى تكون الظاهرة موجودة هناك. محددة، ثابتة، وغير قابلة للتغيير. حتى عندما يكون الزمن ذاتيًا، على نحو مكثف"، بكلمات المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، في كتابه "النحت في الزمن"، تفتتح المجلة ملفّها الرئيسي: "الثورة والشعوب في ذاكرة السينما".

ليست الثورة المصرية، وليس الربيع العربي وحده. أنت أمام عدد من القراءات لثورات العالم الكبيرة التي استقرت في ذاكرة الشعوب، وفي وجدان التاريخ الإنساني، عبر أفلام عربية وعالمية، تناولت تلك الحركات التمردية.

المجلة تصدرها جمعية النهضة العلمية والثقافية "جيزويت ـ القاهرة". وهي، بالمناسبة، الجمعية الراعية لعدد من الفرق الفنية، ومنها فرقة "أطفال الشوارع"، التي سُجن أعضاؤها فترة على ذمة قضية بتهمة التحريض على مؤسسات الدولة بأغنية!

الملف يعرض باستفاضة التناول السينمائي لأبرز ثورات التاريخ، واقفًا في عدد من موضوعاته عند جدلية لا تنتهي حول التعارض، أحيانًا، بين التناول الفني للحدث وبين تناول الوقائع تاريخيًا، كما في "أنا كوبا" والثورة الروسية، و"كومونة باريس"، والثورة المجرية في فيلم "أطفال المجد"، وثورة رومانيا التي تناولتها أفلام: "شرق بوخاريست" و"ستصبح زرقاء" و"مشاهد من الثورة الرومانية". هناك أيضًا: "لاشين"، "زوجة رجل مهم"، "رد قلبي"، "شروق وغروب"، "ثورة الزنج"، "12,08 شرق بوخاريست"، "غاندي"، "أنا كوبا"، "لمن تقرع الأجراس"، "أيا كارميلا".

بطبيعة الحال، حازت ثورة يناير المساحة الأكبر من التناول النقدي للأعمال السينمائية التي تناولتها، مثل "حظر تجوال"، و"18 يومًا"، و"اشتباك" الذي قامت الدنيا حوله عند الاحتفاء به عالميًا، فضلًا عن حوار طويل مع المخرج المصري أحمد عبدالله حول السينما المستقلة وعلاقة الثورة بالفن وكيفيه تعامل السينما المصرية مع "يناير" وعرض تجربة "فرش وغطا". وتحت عنوان "السينما مستمرة" جاء حوار مع المخرجة ندى رزق مدير مهرجان الجزويت الثالث للفيلم، دار حول فيلم "فابريكا" وتأثير التغيرات الاجتماعية في الفن.

3
"هل هناك علاقة بين التنوير والسينما؟"
نعم، هناك علاقة قوية وتاريخية أيضًا، فمن الظواهر اللافتة للانتباه في القرن السادس عشر، ثم قفزًا إلى القرن العشرين، ظاهرتين: الأولى هي دوران الأرض، والثانية هي دخولنا عصر الصورة.

الظاهرة الأولى تخص التنوير، وكان الفضل فيه للعلمانية على يد عالم الفلك الشهير كوبرنيكوس عندما أعلن أن الأرض تدور حول الشمس. والظاهرة الثانية تخص قوة الصورة، وطغيان التصور الذي يعتبر (سينما بشكل ما). قوة الصورة في حركة الأفلاك، وطغيان التصور في دوران الأرض حول الشمس، مما يخلق مشهدًا سينمائيًا. والسينما، بما تمتلكه من إمكانات سمعية بصرية، مسموعة مرئية، وقدرة على الانتشار والوصول، وتجاوز حواجز اللغة، واستلهام الآداب ونقل تجارب الشعوب بدت الأقدر على ممارسة حاسمة في هذا الزمان. زمن ثقافة الصورة".

لم يدهشني أن تبتعد افتتاحية العدد، لرئيس التحرير، بشكل ما، عن عنوان الملف الرئيسيّ، ومحاولته استحضار المفهوم الواسع لفكرة التنوير. ذلك أنني أعرف سامح سامي عن قرب منذ 10 سنوات. هو من هؤلاء الذين استجابوا لدوامة لحياة، فانشغل كثيرًا عن السير مسافة واضحة من مشروعه التأملي في مناحي المعرفة والفلسفة، ومن المهمومين بكيفية التعالي على المادة والثوابت، متأثرًا بفلاسفة من قبيل نيتشه، والمصري مراد وهبة، ومن قلائل كنت محظوظًا بمقابلتهم في بداية حياتي المهنية. أنت تستطيع، بمزاملته، أن تجلس في بيتك مطمئنًا إلى أن هناك من سيحمل اليوم فوق رأسه حتى لا تفسد الأمور بسبب غيابك، وذلك الكرم في فتح أبواب المعرفة أمام رغبتك في الوصول إلى فكرة أو معلومة.

من هنا، ربما تعيده مسؤولية توليه مجلة "الفيلم" مجددًا إلى الدائرة التي لا نستطيع التنفس خارجها، إن لم يكن بالكتابة، فعلى الأقل، بمجهود تقديم مجلة تليق بأحلامه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024