مسرح لبنان: مغالاة على مغالاة

روجيه عوطة

الأحد 2018/10/07
من يصله خبر استقبال بيروت للدورة الأولى من مهرجان المسرح الأوروبي الذي تقام فعالياته على مسرح المدينة - بيروت، يظن لوهلة أن هذه المدينة قد أنجزت حاليا مسرحها، وصار له فيها مطرح حيوي، وها قد غدا الآن قادرا على فتحه لتجارب أخرى، يغنيها وتغنيه.

إلا أن ظن المتلقي ليس دقيقا البتة، فبيروت، ومعها كل البلد، الذي تمركز بعنف فيها، لا يبدو مسرحها بخير، فهو، وبعموم التعليق على وضعه، يشكو من أمر بعينه، يكاد يودي به إلى الغياب، الذي، وفي الوقت الراهن، أضحت الجلبة تعبّر عنه وليس السكون: لا إشكاليات يحملها هذا المسرح، بمختلف وجهاته، وبمختلف امكنته.

وحملها من قبله هنا لا يعني صناعته لها، فطرحه لاشكالية ما يبقى فعل بعيد المنال إذا لم يعالج اشكاليته، التي ترتبط بموقعه بين كل الفنون، والتي ترتبط بصلته بكل عالم غيره وغيرها.
لا يمكن القول إن هذا المسرح يسير نحو حمل إشكالياته، بل، وتماماً على العكس، يعيش من خلال تجنبها بالذهاب في عدد من السبل المقفلة، اكان سبيل المعهد العالي للفنون المسرحية، أو سبيل العصرنة، أو سبيل التوليف السطحي بينهما.

لكل سبيل من هذه السبل سمات يتركها على مسرحه. فالأول يطبعه بالدراما التي تقبض على تمثيله، وتدفعه إلى جعل المغالاة قوامه، وبعد هذا، قد تنقلب هذه الدراما إلى هزل، ومغالاتها إلى تهريج، وعلى المقلبين، تبغي الخشبة أن تكون قريبة وواسعة، أو شعبية تحديداً، ولذلك، تجد في التلفزيون، أو في أي منحى تلفزيوني، مقصدها.

من هذا الإطار، يتفرع السبيل الثاني، الذي، ولكي يعصرن المسرح، يطبعه بالسخرية، ويبقي على المغالاة فيها، وبعد هذا، قد تبين هذه السخرية عدميتها، فتحول مغالاتها تلك إلى غطاء لستر نفاد قولها. هذا السبيل، وبتفرعه من دراما المعهد، أبقى على تلفزيونية الخشبة، مبرمجاً إياها بطريقة لا تحقق "الشعبية" بوصفها تجمع، بل تفرق، ولاحقاً، وبفعل المغالاة نفسها، تطور المنحى التلفزيوني إلى منحى فايسبوكي، ومن سماته الأساس، عدا عن ذكر المنصة الإلكترونية أو تصميمها مثلاً، اجتياح ما يصح تسميته السرد التمثيلي للخشبة، حيث طغت الوظيفة السردية على الممثل، الذي ما عاد ثمة حاجة لتأديته، ولأي طرز من أطرزة هذه التأدية، ولكن، ثمة حاجة لأن يحكي فقط.

السبيل الثالث، سبيل التوليف السطحي بين الإثنين السابقين، اقلع من كونهما منفصلين، وذلك، على الرغم من كون العصرنة تفرع من المعهد، وبهذا الإقلاع الخاطئ، حاول أن يوصل بينهما على اعتقاد أن فعله هذا ينتج مسرحاً مغايراً. بيد أن خشبته ليست سوى همزة وصل بين خشبتين، واحدة، خائرة ومكسورة بفعل ما وضع عليها، لا سيما عندما جرى تكثيف تلفزيونيتها، وأخرى، هابطة ومسدودة بفعل إتمام تلفزيونيتها أي بلوغها التفتت "البروفايلي". 
ولّفت الخشبة تلك بينهما كأنها تدرجهما في سياق "العيش المشترك" مع بعضهما بعضاً، وبالتالي، أضافت السخرية على الدراما، والشعبية المتفرقة على الشعبية المتجمعة، مثلما أضافت السرد التمثيلي على الإنفعال الأدائي، وطبعاً، كل ذلك، بنوع معين من المغالاة، نوع يحيي حلما مسرحيا قديماً، حلم التوعية والوعظ. لكن، الوصل بين المكسور والهابط ليس سهلاً، يتطلب الكثير من الردم والتثبيت، وعلى هذا النحو، لا بد من المأسسة.

مغالاة على مغالاة، وصل الموصول مسبقاً، إلى هذا الوضع، انتهى المسرح متوزعاً بين ثلاث سبل متداخلة، لا توتر بينها سوى على تقاسم غيابه، وعلى إبعاده عن إشكالياته، التي، وبفعل تلك السبل، تتفاقم للغاية، وتصبح ملحة، لا سيما مع كون الأعمال المعروضة فيه لا تتوقف عن التجانس.

فهناك مسرحية واحدة يجري تقديمها على هذا المسرح، وهي مسرحية تجمده وزواله، التي، وفي أثنائها، ينظم ويستقبل مهرجانات كثيرة، لتكون كهؤلاء الذين يزورون مريضاً، فيكذبون عليه أنه على ما يرام، لأنهم، وببساطة، يعرفون أن كذبتهم هي طاقته الوحيدة.
 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024