ثورة حنة آرندت: الحرية كإحداثٍ للبدء

روجيه عوطة

الأربعاء 2019/06/12
لا يُقرأ نص حنة آرندت، "الحرية في أن تكون حرّاً"، والذي لم يكن قد وجد سبيله إلى النشر من قبل وصدر بالفرنسية مؤخراً عن دار "بايو"، سوى كمانيفستو. ومردّ ذلك، ليس أن كاتبته، وفي مقاطع منه، تتدخل، وبعد شرح، بحديث مباشر منها لتعلن ما تتمناه، إنما أيضاً لأنه، وعلى صفة يجب تخليصها من الرطانة الأكاديمية، راهن. 

إذ إنه يتناول الثورة، التي هي، وعلى قول بديهي، بمثابة حدث عصرنا، أكان بمجيئه حالياً من العالم العربي، أو من توزعه سابقاً، وربما، لاحقاً، في العالم. كما أنه يتناول الثورة ربطاً بالحرية، التي غالباً ما يبدو طرحها، وفي العصر اياه، شبه غائب، أو بالأحرى غير كاف. فسؤال "ماذا يعني أن نكون أحراراً اليوم؟" يستحق أن يحضر. أما إذا كان حدوث "اليوم" قوامه الثورة، فيصير عندها سؤالاً ضرورياً.

على أن راهنية النص تتعدى موضوعه إلى معالجته، أو بالأحرى خلاصته، التي تبرز كأنها مكتوبة من أجل عالمنا، بعد ملاحظة سقوطه في "النهاوية"، في هذه الايديولوجيا التي تطغى فيه، ويعلق داخلها، مجتراً نهاياته. بالتالي، من الممكن الاعتقاد بأن النص يشرق من خاتمته، حيث يتبلور، ويتكشف عن كونه أول حجر في بناء مانيفستو الابتداء، الذي يحتاج العالم إليه "اليوم". من هنا، قد يصح اختصار النص كله بعبارة منه: "معنى الثورة هو تحقيق أكثر الإمكانات الإنسانية عظمة وأولية، تحقيق التجربة التي لا نظير لها، تجربة أن تكون حراً، أن تتمم بدء جديد، والتي تمد بأنفة فتح العالم على نظام جديد للقرون" الآتية.

ولا تصل آرندت الى تعريف الثورة على هذا المنوال، وهو منوال سياسي لأن "الولادة [اقرأ، البدء ايضاً] هي شرط السياسة" بحسبها، إلا بعد دوران تأريخي، يعود إلى وقت انتقال الثورة من قاموس علم الفلك إلى قاموس علم السياسة، أو علم الحيلة على ما سمّته العربية بإبداع ودقة. وبعد انتقالها هذا، تدرجت في  معناها من الإصلاح إلى التوليد، بحيث أن الثورة، وقبل حدوثها أميركياً وفرنسياً، وخلال هذا الحدوث حتى، كانت تعني إصلاح النظام القائم، لكنها في واقعها كانت تؤدي، وعلى عكس إرادة خائضيها في الكثير من الأحيان، إلى ارساء نظام جديد بالكامل. فحين بانت الثورتان الأميركية والفرنسية على هذا الواقع، الذي لا إصلاح فيه، بل توليد، كتب توماس بين عن كونهما من "الثورات المضادة".

وبالتوازي مع انتقال الثورة من الإصلاح إلى التوليد، كانت الحرية أيضاً تنتقل من كونها حصولاً على مروحة من الحقوق المدنية، إلى كونها إضافة للحق في السياسة، لحق المشاركة في الشؤون العامة، عليها. في هذا السياق، الثورة، بعد استوائها على معنى التوليد، تستند الى أمرين: التحرر والحرية. الأول لا يحمل على الثاني دائماً، أي أن التحرر من قمع النظام القائم لا يؤدي إلى "عيش حياة سياسية"، لأن التحرر قد تكفله ملكية بلا استبداد، في حين أن عيش حياة سياسية لا تضمنه إلا الجمهورية. وهذا، حين لا تجعل التحرر تحرراً من الخوف فحسب، بل، ومن الحاجة أيضاً.

في هذه الجهة، تؤكد آرندت أن الثورة الفرنسية فعلت ما لم تفعله غيرها، وهو انتشال التعساء من الظلمة إلى النور، حيث صنعوا حركة لا يمكن لأي سلطة ضبطها. لكن هذه الثورة لم تُبلَغ، في ظنها، سوى عقب التنوير المستبد - "جمهورية؟ مَلَكية؟ لا أعرف سوى المسألة الاجتماعية"، روبسبير - الذي سيصير قاعدة الثورات من بعدها. تكتب آرندت مستنتجةً: "التمكن من الفقر لازم لتأسيس الحرية، لكن التحرر من الفقر يستقر على سوية واحدة مع التحرر من القمع السياسي".

ومع ذلك، لا يجب النظر الى الثورات بعد تشوهها، إلا بتلمس الدروس منها، بالتشديد على عظَمتها، وعلى الوعود التي تتألف منها. الدرس الأساس؟ الثورة بما هي تحرر، بما هي تحقيق للحرية، تستلزم البدء. وحينها، لا رجوع عنها، وهذا محال. ولا اعتلال بها، وهذا مُضرّ. إنما إحداثها من جديد. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024