أمّ كلثوم في مزاج أنسي الحاج

محمد حجيري

السبت 2019/10/19
في استقراء وقوف أمّ كُلْثوم على المسرح وهي تغنّي، والنظر إلى جسدها وطلّتها وحركات منديلها وثيابها المحتشمة ومجوهراتها وطرق تفاعلها مع جمهورها، تتفاوتُ الآراء الثقافية والنقديّة، بين الكتابة السوسيولوجية والايديولوجية وحتى النسويّة والأدبية، وتقوم على ثنائيات و"أخلاط وأمزجة" وصورة وصوت وأداء تمثيلي وطرب. والوقفة الكلثومية على ما هي عليه، تكتنز الكثير من الأقنعة والتعابير. فالباحث أحمد بيضون يكتب عن أدوار أمّ كلثوم على المسرح، وحضورها الجسماني فيقول في فَسبكته: "نَحْنُ معتادونَ حتّى الإدمانِ أن ننظرَ إلى جَسَدِ أُمّ كُلْثوم، وهي تغنّي، على أنّهُ أقْرَبُ إلى جَسَدِ خَطيبٍ، مقتصِدٍ في حركاته نسبيّاً، منه إلى جَسَدِ امْرأةٍ تُتَرْجِم بجسدِها كلِّه ما في الأغٌنيةِ من مَعانٍ وانفعالاتٍ... وخصوصاً ما غلَبَتْ فيه الأنوثةُ من هذه وتلك. هذا يُساعِدُ في تجريدِ صوتِها، بمَزاياهُ كلِّها، من شخصِها الجِسْمانيّ ويجْعَلُنا نؤْثِرُ أحياناً تسجيلاتِها الصوتيّةَ على حفلاتِها المتلْفَزة". وتظهر صورتها في أدوارها السينمائيّة مختلفة، وتبدو لنا أمُّ كلثوم الشابّة، كما يقول بيضون "شخصاً غريباً عنّا صوتاً وصورةً حيث نَراها تتركُ ما في الأغنية من غُنْجٍ أنْثَويٍّ، مَثَلاً، يُحاوِلُ تَرْجَمةَ نَفْسِه، لا بالصوتِ وحْدَهُ، بل بأوضاعِ الجسدِ كلّهِ وحركاته".

"جسد أمّ كلثوم وهي تغني"(..)أقْرَبُ إلى جَسَدِ خَطيبٍ" بحسب صاحب كتاب "كلمن"، وهي تُخاطبُ المستمع "على طريقة الزعيم"، بحسب الشاعر ومنظّر قصيدة النثر أنسي الحاج، الذي يغوص في مقارنةٍ مبسّطة مفتعلة بين مطربة يعتبرها "فولاذية" و"سلطة في السلطة، وأحياناً فوق السلطة". وهي أمّ كلثوم ابنة مصر، وفنانة يحبها بـ"ارهاب" هي فيروز ابنة لبنان، ويقول عنها الحاج أنها تخاطب المستمع "بصوتِ صبيّةٍ خائفة، ومع هذا تحمل الطمأنينة". ويغرق صاحب "لن" في اختيار مفردات تجعل أمّ كُلثوم منفّرة وفجّة وجبروتية، وفيروز أشبه بقصيدة وشلال من التعابير الحلُمية والرومنسية. ففي رأيه، "الأولى تهزّ الجسد وتمخر به عباب استمتاعه، والثانية تمسّ الجسد كالشعاع فيركع على روحه. صوت الأولى ينقضّ بسطوة الجبّار، وصوت الثانية يُرْعِش إرعاشَ قمرٍ يَسْطع فوق بحيرة. الأولى فرعون والثانية حُلُم". والفَرْعَنَةُ: الكِبْرُ والتَّجَبُّر. وفِرْعَوْنُ كل نَبِيٍّ مَلِكُ دَهْره؛ أما الحلم فهو في جانب منه عوالم الشعر، والشعر "أن تأخذَ حُلُماً وتبدأ بتحويلهِ إلى حقيقة"...

جملة فرعنة أم كلثوم وحلمية فيروز كافية لاستدراك باطن الشاعر صاحب الأمزجة، الذي همّه انتصار ذاته اللغوية في حبّ فيروز أو "الرسولة" واللاحب في ما يتعلق بأمّ كُلثوم، وقد أفرد صفحات لمهاجمتها حين كان الحاج رئيساً لتحرير ملحق "النهار"... هذا الإنحياز العصبوي والجموحي لفيروز، قاد الحاج إلى تخطي منطق الكتابة والاستقراء إلى العشق والهيام والوله، ممزوجاً بالبعد اللبنانوي والأقلوي فيدلف علينا في إحدى خواتمه مقولات، ربما تكون من أسوأ ما كتب في حياته، يقول "إذا أنا مسيحي فخور بهؤلاء الروّاد كما هو أيّ مسلم فخور بالأدب المصري. أنا فخور ومنحاز للفنّ الغنائي اللبناني ولفيروز والأخوين رحباني، كما هو المصري والسنّي العربي عموماً منحازان لأمّ كلثوم وعبد الوهاب. وأنا منحاز لأسمهان وفريد الأطرش الدرزيّين لأنّهما ذهبا شهيدي التضافر المصري ضدّهما. هذه جذورنا وهي أجمل منّا"...

ربما هذا يجعل أي قارئ يسأل إن كان حب الصوت الطربي يرتبط ببُعد طائفي أو مذهبي، وربّما هذا الأمر متوافر عند بعض العوام، وهذا بديهي، لكن من غير المنطقي أن يكون الكلام في مقالة لشاعر حداثي، وهو يعرف أن جمهور فيروز من كل المشارب وكذا جمهور أمّ كلثوم... على أن الحماسة لتأييد فيروز ضد أمّ كلثوم، ورد ما يشبهه أو يستنبط منه في رواية "حارس الموتى" للروائي جورج يرق، اذ يقول: "لا يكتمل لفّ الصواريخ وتدخينها، من دون أغاني أمّ كلثوم يصدح بها راديو كبير عامل على البطاريّة. يرفعون صوته ويهزّون رؤوسهم إشارة إلى أنّهم مأخذون بالأغنيّة. لم أفهم الصلة بين الصاروخ وصوت هذه المطربة التي كان المصريون يتركون كل شيء كي يسمعوها من الإذاعة ليلة الخميس الأوّل من كل شهر. وطالما كدتُ أخرج من ثيابي متسائلًا ما اللذّة التي يجدونها في ترداد البيت الواحد مرّات عديدة. كان هذا النوع من الغناء يجلب إليّ النعاس. كلّما سمعته سمعتُ صوت أبي في المقهى مسترجعًا رأي أنسي الحاج في غناء أمّ كلثوم وصوتها. وهو لطالما كرّره. على ذمّة أبي، قال أُنسي: "شبعنا من هذه الرتابة الرهيبة التي تتحكّم كالأفيون بعقول عبّادها وليس لها في الحقيقة غير شكل الصنم وفحواه". وتذكّرت كم كرهتُ زوجة خالي التي كانت تستمع إلى"الستّ" كما تسمّيها، وهي تطبخ وتكنس وتمسح وتكوي وتغسل.

المتراس المجاور لنا، على بُعد ثلاثين مترًا، كانت فيروز مطربته المفضّلة. يرفع صوت المسجّلة إلى الدرجة القصوى ردًّا علينا. أحيانًا، كنت أنتقل إليه هربًا، أسمع فيه مجموعة أغانٍ لفيروز فيما أمّ كلثوم هناك لا تزال في ربع الأغنية الأولى. أحدُ أسباب انحيازي إلى فيروز، وقوعي في غرام شقيقتها هدى في مسلسل "من يوم ليوم". أُغرمتُ بها وهي أُغرمت بوحيد جلال الذي تمّنيت وقتذاك موته كي أبقى بلا منافس".

هذا المقطع الروائي علق عليه الصحافي حسين جرادي في الفايسبوك قائلاً "كنتُ أعرف منه أثناء عملي في "النهار" أنه لا يحبّها (أم كلثوم)، لكنّي وكثيرين غيري يعزون جزءاً من موقف الشاعر الراحل إلى هيامه اللامحدود بفيروز، والذي وُصف بـ"الحبّ الطاهر"، وترجمه في كتابات منها "ليتني أستطيع أن ألمس صوتها، أن أحاصره وألتقطه كعصفور، كأيقونة (...) عندما أسمعها أصبح إنساناً ناقصاً صوته، أصبح بصوتها"، وفي مكان آخر يقول "حتى الموسيقى تغار منه"، أي صوتها.

والمفارقة التي رُويت في أكثر من موضع، وكتبها الشاعر فادي العبدالله في فايسبوكه تقول "لطيف في شأن انسي الحاج، ما روت صديقة من أن اللبناني والشاعر، عاشق فيروز الشهير، أفاق وطلب من ابنته ان تضع له شريط ام كلثوم، قبل ان يجهش، ويغمض عينيه". 
كان المشهد الأخير أشبه بقصيدة تفوق الخيال.

(يتبع...)
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024