إمتحاننا الدائم

روجيه عوطة

الإثنين 2016/09/26
كأن ذلك الجهادي الإسلامي، الذي تقدم من درج قصر العدل في عمّان، لم يردِ الكاتب ناهض حتر قتيلاً، بل أن رصاصاته قد أطاحت الإنقسام بين معسكري الممانعة واللاممانعة، وجعلتهما خندقاً واحداً. ذلك أن المتقين به، ولأن القاتل أمامهم هو عدوهم المثالي، أي الديني المتطرف، اتفقوا على شجب الجريمة واستنكارها. وإذا كان احتجاج الممانعة على مقتل كاتبها، فعلاً بديهياً، نظراً إلى أن القتيل كان ينتمي إلى صفوفها، كان اعتراض اللاممانعة فعلاً متوقعاً، نظراً إلى أن ذاتها تحضر في امتحان دائم. 

فمع أن حتر لم يحمل قلمه سوى لتسويغ المجزرة، التي لا يتوقف نظام بشار حافظ الأسد عن ارتكابها، ومع أنه كان يدبج خطابه لتظهير استمرارها كضرورةٍ أو كحاجة ملحة، ومع أنه لم يتردد في إذاعة معتقده بأن إقتلاع السوريين من بلادهم هو بمثابة تطهير لها منهم، ومع أنه لم يتوقف عن إذاعة رأيه الأحادي كما لو أنه الرأي المُنْزل، وأي رفض له هو عبارة عن معصية، تستحق عقاب الإماتة، إلا أن ذلك كله، يجب أن نتغاضى عنه، ونذهب إلى نكراننا، كما لو أنه ملجأنا من ذعرنا.

إذ علينا، نحن، الذين لسنا بممانعين ولا إرهابيين، أن نسجل موقفاً من الحرب بين التكفير والتخوين، وعلينا أن نفرح أو نحزن لغلبة طرف على غيره، ولهذا، لا مجال لنا سوى إعمال التمييز الأجوف بينهما، قبل أن نمارس بروتوكول الذنب، أي الإدانة، التي تنطوي "كلنا الضحية" فيها على "كلنا المجرم"، بحيث إننا متهمون مسبقاً بأي جريمة، وبالتالي، نبدو مجبرين على الإعتراف بكوننا لم نقترفها، كي لا تحوم الشبهات حولنا.

فمثلما كان على ناهض حتر، في كتاباته، أن يثبت لإله الأبد أنه يتعبده بالتحريض على إهلاك كل معارض له، ومثلما كان على الديني المتطرف أن يؤكد لربه أنه يطيعه بالقضاء على كل "مشرك" به، كذلك، علينا أن نثبت لإلهنا، إله "العدمية الديموقراطية"، على قول مهدي بلحاج قاسم، أننا نؤمن به عبر محق أنفسنا، فإذا لم نغتبط أو نتكدر في إثر مقتل حتر، نبدو، بذلك، كأننا بلا "حسّ إنساني"، وبلا "قيم"، وطبعاً، "بلا أخلاق"، فنشك في أمورنا، ونمضي بتلقائية إلى إعلان براءتنا، والتلويح بها.

لهذا، يتوجب علينا أن نستعمل قاموسنا الحقوقي، وهو الكتاب المقدس لإله عدميتنا الديموقراطية، وعلينا الإنطلاق من آياته لكي نوصّف جريمة حتر، وننحاز إلى طرف منها. فإذا تعصبنا للقاتل، لا يعود بمقدورنا أن نتنصل من اتهمانا بأننا مذنبون. لكن، وفي الوقت نفسه، لا يمكننا أن نتعصب للقتيل، خصوصاً أنه لطالما تنكر لإبادة السوريين، وشجع عليها، غير أن لا مناص لنا من موقفٍ، ينفي التهمة عنا، ويعرض براءتنا. فلنفصل بين ناهض حتر الحي وناهض حتر الميت، ولنتعامل مع الثاني بقطعه عن الأول، ولنعزل الجريمة كما وقعت عن الجريمة كما نتصورها، وعندها، نرتكز على مقولاتنا المجردة، ونرددها بنبرة تجمع بين تأدية الصلاة وتقديم المرافعة، قبل أن نخلص إلى كوننا لا نستحق الحياة، مخففين ذنبنا بندبنا.

نصرح بأننا "ضد الإغتيال السياسي"، وبأننا "مع حرية الرأي والتعبير"، وبأننا "مع احترام الحق في الإختلاف السياسي"، وبالتوازي مع ذلك، ندرك جيداً أن تعاليم كتابنا العدمي الديموقراطي لا تنطبق على حتر. "لكن"، لا بأس، فنحن لا ندلي برأينا من أجله، بل من أجلنا، من أجل أن نجري إمتحاننا، وأن نتعداه، وهذا ما يتطلب منا أن نلفظ آيات كتابنا، وندافع عنها، كأننا نقر بالحقيقة المطلقة، بحقيقة اتهامنا دائماً، خصوصاً عند استعراض براءتنا، وبعد أن نفرط في الإقرار بها لدرجة اختبار آخرينا بها. وهؤلاء في حال لم يجيبوا مثلنا، نظن بأننا وقعنا على الراسبين بيننا، أي الذين نظن أنهم إذا لم يدينوا الجريمة، فذلك لأنهم حلفاء القاتل، ولأنهم سعداء به. وعلى هذا النحو، ننتقل من إمتحان إلى آخر، ويستحيل "رأينا العام" كأنه رأي أحادي "ديموقراطي". 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024