فرناندو بيسوا.. "رسائل ونصوص" السؤال المستحيل

شريف الشافعي

الثلاثاء 2017/03/28
هل تُغني درامية الكاتب، في ما يقدمه من خلق إبداعي، عن ذاتية ما تطل تلقائيًّا من بين السطور، مهما حاول أن يزيحها خارج المركز؟ الموضوعي، في عمل روائي مثلًا أو مسرحي أو حتى قصيدة شعرية تتخلى عن غنائية المتكلم، هل يكفي وحده لتوصيف المنتج الفني بعيدًا عن الشخصي أو الحميمي المنسوب إلى صاحب النص، بإرادته أو رغمًا عنه؟ المؤلف، هل يمكن تعيينه أو رصد إحداثيات شخصيته من خلال مجمل أعماله؟ وهل يضيف اسمه على أغلفة كتبه شيئًا إلى القراء والنقاد على حد سواء؟

تساؤلات عديدة، الإجابة الأكثر شهرة عنها جميعًا: "فرناندو أنطونيو نوجييرا بيسوا" (1888-1935)، شاعر البرتغال وناثرها الأعظم، الذي أفسح المجال بشكل عملي لغياب اسمه الحقيقي عن مؤلفاته، وابتداع أسماء وشخصيات وهمية نُسبت أعماله إلى أصحابها، في حيلة بلغت مداها غير المسبوق، إذ تجاوز الأمر مجرد تخفي بيسوا وراء غطاء إلى تجسيد عدد كبير من المؤلفين الخياليين الذين راح يكتب وينشر بأسمائهم، بوصفهم أناسًا حقيقيين من لحم ودم، لكل منهم حضور وسيرة ذاتية ووصف فيزيائي وسمات نفسية وسلوكية، بل ومذهب إيديولوجي وانحياز سياسي وتيار أدبي، الخ. لقد صنعهم جميعًا بيسوا العجائبي، القادر على ابتكار شخوص فنية متعددة ومتناقضة في كتاباته، لدرجة أنه اختفى وسطهم، ولا يكاد يدرك أحد أين ومن هو، حتى هذه اللحظة.

في كتابه "فرناندو بيسوا – رسائل ونصوص" (*)، يذهب المترجم والمحرر وائل عشري (**) إلى أن بيسوا، الذي لم ينته تقريبًا من أي مشروع كتابة بدأه أو خطط له، وجاءت كتاباته تحت أسماء مختلفة ولغات متعددة، لم يكن يرمي إلى مجرد اتخاذ أسماء مستعارة، ولا ابتكار شخصيات أدبية يُخفي بها هويته أو لكي يعبر عن أفكار أو وجهات نظر لم يرد لأي سبب من الأسباب أن ترتبط بشخصه واسمه. بالأحرى، يقول عشري، "كان هؤلاء كُتابًا مستقلين عنه، يكتب عبرهم أو يكتبون عبره، لكل منهم رؤيته الخاصة للعالم، وأسلوبه الأدبي، وجمالياته، وأحيانًا آراؤه السياسية والاجتماعية. وكي يؤكد بيسوا على هذا الاستقلال، أطلق عليهم وصف الأنداد".

من هو بيسوا الأصلي؟ ما الذي اعتقده بيسوا في حقيقة الأمر؟ هذا هو "السؤال المستحيل"، الذي لا يدعي الكتاب الإجابة عنه. يذهب محرر الكتاب ومترجمه وائل عشري إلى أن بيسوا لا يبدو أنه قد اعتبر هؤلاء "الأنداد" خدعة ممتدة خفيفة الظل، ولا تدخلًا لُعبيًّا في وسط أدبي أكثر جدية مما راق لذائقته. ويصل عشري إلى الاعتقاد بأن بيسوا "نظر إلى أنداده كتبدٍّ آخر لتعدده الشخصي، وَوَصَفَ نفسَه، في علاقته بالشخصيات الأكثر أهمية بين هؤلاء الأنداد، بأنه: الأقل شأنًا بينهم جميعًا!".

هذا "الهزل" هو الأمر الوحيد الذي يجب أخذه على محمل الجد، عند التعامل مع بيسوا، ورسائله، ونصوصه، في هذا الكتاب، ولربما في سائر الأعمال المنسوبة إلى الرجل، وأنداده/مؤلفيه. ولعل هذا التخفي أو الغياب أو التعدد "البيسوي" (نسبة إلى بيسوا) هو ما دفع وائل عشري إلى افتتاح كتابه بمقدمة ذكر فيها "المزحة الشائعة"، التي تقول "إن أهم أربعة شعراء في التاريخ الأدبي الحديث للبرتغال هم: فرناندو بيسوا، في إشارة إلى بيسوا ذاته، بالإضافة إلى أنداده الشعراء الثلاثة الأكثر شهرة بين الأنداد: ألبرتو كاييرو، ريكاردو رييس، وألبارو دي كامبوس".

ودعمًا لهذا الغياب أو التناقض أو التعدد "البيسوي"، يورد عشري في كتابه عددًا من المقولات المفتاحية، منها مقولة بيسوا (بلسانه الحقيقي): "اليوم لا شخصية لي: لقد قسمت كل إنسانيتي بين المؤلفين العديدين الذين خدمتهم كمنفذ أدبي. اليوم أنا مكان لقاء إنسانية صغيرة تنتمي لي أنا فقط". ويقول "الندّ" برناردو سواريس، الذي صدر باسمه "كتاب اللاطمأنينة" الشهير لبيسوا في طبعته الأولى في عام 1982 (بعد قرابة نصف قرن من رحيله): "كلٌّ منا متعدد، كثيرٌ، وفرةٌ من الذوات". وبصراحة أكثر، يقول "الند" الآخر، ألبارو دي كامبوس، في "ملاحظات حول ذكرى سيدي كاييرو": "فرناندو بيسوا، إن تحرينا الدقة، غير موجود!".

يحفل كتاب "فرناندو بيسوا – رسائل ونصوص" بعشرات الرسائل الشخصية والرسمية التي كتبها بيسوا باسمه الحقيقي وبأسماء "أنداده" الافتراضيين، وعدد من النصوص المتعلقة بالأدب وفلسفته، فضلًا عن مجموعة من القصائد التي كتبها بيسوا بالإنكليزية.

وبينما يصف محرر الكتاب وائل عشري رسائل بيسوا المختارة بأنها ليست شخصية ولا حميمية على نحو خاص، إذ تنتمي إلى الكون المصغّر الذي ابتكره بيسوا، دون أن يكون هو في مركزه بالضرورة، فإن قارئ هذه الرسائل بتمعن يصل في حقيقة الأمر إلى ما يمكن وصفه بالذاتي داخل الموضوعي، فالرسائل الموقعة باسم بيسوا نفسه أو بأسماء أنداده تكشف عن جوانيات كاتبها، الحقيقي أو المفترض، وتزيح النقاب عن تفاصيل تخص مناسبة كتابة الرسالة من جهة، فضلًا عن ملامح نفسية وأسلوبية تتعلق بكاتبها، بالإضافة إلى طبيعة علاقة كاتبها بقيم ومعانٍ بالغة الحساسية، كالعشق الملتهب مثلًا، الذي قد يصل إلى درجة الجنون.

جاءت المختارات التي تضمنها الكتاب من عدد من المصادر التي وثقها المحرر بدقة ومنهجية، ومن الرسائل التي يكشف عنها الكتاب واحدة كتبها بيسوا في سن صغيرة، إذ كان في الثامنة عشرة من عمره، وتتجلى فيها سمات مميزة لشخصيته وتعبيره. الرسالة إلى محرر مجلة "بنش" (Punch)،  وهي مجلة بريطانية "ساخرة"، تأسست عام 1841، واستمرت في الصدور حتى عام 1992، وأعيد إصدارها عام 1997، وتوقفت مرة أخرى عام 2002. الرسالة موقعة بتاريخ 21 من فبراير 1906، ومعها يرفق بيسوا قصيدته التي كتبها في سن مبكرة "مرثية لزواج صديقي العزيز السيد جينكس"، ومما يقوله بيسوا في رسالته: "أقدم القصيدة المرفقة لتقييمك. لقد حاولت فيها فقط أن أبلغ السخف بمزج الجاد والهزلي. لقد حاولت فوق هذا أن أربط بين سخف التعبير الناتج عن ذلك بحركة نظم رثائية رفيعة، سيكون لك الحكم على قدر نجاحي".

هذا الملمح الأسلوبي، بالمزج بين الجد والهزل، تكشفه رسالة بيسوا المبكرة، كما تتجلى سخرية "شخصيته" جنبًا إلى جنب مع النص الأدبي الساخر، إذ يختتم الرسالة بقوله: "إن رُفضتْ قصيدتي، أخشى أنه يتعين عليك أن تضعها في سلة المهملات، ذلك أن طوابع البريد الإنكليزية لا يمكن الحصول عليها هنا. على أمل النجاح أرفق ما أستطيعه. الظرف عليه عنواني. في انتظار قرارك. أنا يا سيدي، المخلص لك، ف. أ. ن. بيسوا".

وفي 5 من يونيو عام 1914، يكتب فرناندو بيسوا، ذو الأعوام الستة والعشرين آنذاك، رسالة شخصية إلى أمه، تتجلى فيها هواجسه، واضطراباته النفسية والذهنية، وربما هلاوسه أيضًا، بما يبدو كأنه يعري ذاته أمام أقرب الناس إليه: "صحتي جيدة وحالتي الذهنية، على غرابة ذلك، قد تحسنت. يعذبني قلق غامض لا أعرف ماذا أسميه سوى حكة عقلية، كما لو كانت روحي مصابة بالجدري. فقط بهذه اللغة العبثية أستطيع أن أصف ما أشعر به". هذه الشذرات الموحية، غير الموسومة بأنها نصوص أدبية محضة، ربما يجوز نسبتها إلى فرناندو بيسوا الحقيقي، الذي قلما يتجلى وجهه، والذي يقول في الرسالة ذاتها كاشفًا عن نبوءة: "ماذا سأكون بعد عشر سنوات من الآن، أو حتى خمس؟ يقول أصدقائي إنني سأكون واحدًا من أعظم الشعراء المعاصرين، يقولون هذا بناء على ما كتبته بالفعل، لا ما قد أكتبه".

ومن بيسوا، الحقيقي أيضًا، إلى معشوقته وملهمته، الحقيقية بالضرورة، "أوفيليا"، تأتي هذه الرسالة التي وقعها باسمه "فرناندو بيسوا"، في 1 من مارس عام 1920، وفيها يقول، مفلسفًا الحب كشاب منغمس في التجربة لا كشاعر "من خارج الموضوع": "من يحبون حقًّا لا يكتبون خطابات تشبه عرائض المحامين. لا يفحص الحب الأشياء على هذا النحو من القرب، ولا يعامل الآخرين كمتهمين في محاكمة. لماذا لا تستطيعين أن تكوني صريحة معي؟ لِمَ يتعين عليك أن تعذبي رجلاً لم يسبب أي ضرر لكِ أو لأي أحد آخر، وحياته المنعزلة هي بالفعل حمل ثقيل بما فيه الكفاية، بدون أن يزيد من ثقلها شخص ما بإعطائه آمالًا كاذبة وإعلان مشاعر زائفة؟".

ويتصاعد العشق ليبلغ منعطف الجنون، وتتوالى رسائل فرناندو بيسوا، بتوقيعه، إلى أوفيليا، وفي تلك المرحلة الجنونية من العشق يتخلى "الرجل" عن بكارته وتحفظه، وتتكشف تفاصيل تفصح عن صراحة العلاقة بينهما، بقدر ما، كما تتفجر الصور الفنية والتعبيرية في الرسائل في فضاءات المكاشفة والتخييل والانزياحات البركانية المدهشة. يقول في رسالة بتاريخ 9 من أكتوبر عام 1929: "الصغيرة الرهيبة، تروق لي خطاباتك، وهي حلوة، وتروقين لي، لأنك حلوة أيضًا. وأنتِ حلوى، وأنتِ دبور، وأنتِ عسل، الذي يأتي من النحل لا الدبابير. .. .. . ، أعتقد أنني سوف أتصل بك اليوم، وأود أن أقبلكِ بدقة ونهم فوق الشفتين، وأن آكل شفتيكِ وأي قبلٍ صغيرة تخبئينها هناك، وأن أميل فوق كتفك وأنزلق إلى نعومة حمامتيك الصغيرتين.. ..".

ومن رسالة إلى أخرى، مما أورده الكتاب، تتشكل علاقات بيسوا بكثير من أصدقائه، وأقاربه، وناشريه، وغيرهم، ومنهم ألستر كرولي (1857-1947)، الساحر، وممارس العلوم الباطنية، والشاعر البريطاني سيئ الصيت. وتقود الرسائل المتبادلة بين كرولي وبيسوا إلى التيقن من أن الأخير كان شديد الاهتمام بالعلوم الباطنية، والتنجيم، فضلًا عن الجمعيات السرية.
وكثيرة هي رسائل بيسوا، التي على هذا النحو الكاشف لشخصيته وعلاقاته واهتماماته الفعلية، كشخص حقيقي متعين. وفي عدد من هذه الرسائل، تتضح توجهاته السياسية أيضًا، أو على الأقل بعض القناعات والآراء حول أمر ما في توقيت محدد. ومن هذه الرسائل السياسية الكاشفة، ما كتبه بيسوا ووقعه باسمه في 21 من فبراير عام 1935، قبل رحيله بفترة وجيزة، منتقدًا نظام الرئيس أنطونيو دي أولفيرا سالازار، الذي سيطر على مقاليد الحكم في البرتغال، وارتبطت سياساته بما سمي بالدكتاتورية العسكرية. وفيما ورد في رسالة بيسوا للرئيس: "أوجه إليك هذا الاحتجاج على الطريقة التي تدير بها الحكومة، مؤخرًا، أو تسيء إدارة، الحياة العامة. آتي إليك كمواطن برتغالي، مثلما أنت مواطن برتغالي أيضًا، وفي فعلي هذا لن أستخدم الألقاب".

وفي نص شعري يورده الكتاب، ألفه بيسوا بتاريخ 8/9 نوفمبر 1935، يأخذ التهكم من سياسات الرئيس سالازار شكلًا أكثر حدة، رغم التجاء بيسوا، الشاعر في هذه المرة، إلى التعبير من خلال الفن، إذ يقول في "قصيدة حب في دولة جديدة":
"أعرف جيدًا، بسبب عاداتي هذه
لن يكون في وسعكِ أن تحبيني أبدًا
انظري، اغفريها لي كلها..
أنا أتبع توجيهات
البروفسير سالازار
شيوعو-ماسونية
ليبرو-قراطية".

ومن فصول الكتاب كذلك، تلك النصوص والقصائد المنسوبة إلى فرناندو بيسوا، باسمه الحقيقي حينًا، وبأسماء أنداده في أحيان أخرى، منها ذلك النص الذي يكشف أمرًا غاية في الخطورة والحساسية، يتعلق برؤية فرناندو بيسوا لذاته، كملتقى لأكثر من ذات أخرى، ذكورية وأنثوية أيضًا: "يمكنني تعريف ذاتي بدون أدنى صعوبة: أنا أنثى في مزاجي، بذكاء رجل حساسيتي والأفعال الصادرة عنها. بكلمات أخرى، مزاجي وتعبيراته، هي حساسية وأفعال امرأة".

أما قصائد فرناندو بيسوا، المكتوبة مباشرة بالإنكليزية، والتي يوردها الكتاب، فغالبيتها بتوقيع أنداده الكثيرين، ومؤلفيه الافتراضيين. هذه النصوص الشعرية، على ندرتها وتكثيفها قياسًا بما في صفحات الكتاب من رسائل كثيرة ومطولة، هي مرايا تعكس بوضوح أكبر تلك العذابات والتناقضات والتقلبات التي تتنازع فرناندو بيسوا، كشاعر وكإنسان، واحد ومتعدد، في الوقت ذاته: 
"روحي مثل قارب مطلي 
يطفو مثل بجعة نائمة 
فوق الأمواج الفضية لغنائكِ 
العذب".


فرناندو بيسوا، الذي "خواطره كما لمجنون أن تكون"، ورسائله مفاتيح لارتياد خزائن مجهولة، هو شاعر اللعنات المتدفقة، الذي يشعر بأنه "مستبعد من الجنس البشري"، في حين أنه في حقيقة الأمر يرثي الإنسانية لا نفسه حين يقول: "هنا يرقد الشاعر الملعون/ مخفيًّا بعيدًا عن السماوات الزرقاء النقية/ مختلطًا بالطين والقذارة يرقد/ في قاع الجدول/ ../ تاق إلى أن يشعر، تاق إلى أن يعرف/ طمح بالفعل لما له أن يدوم/ وراء الزمن الذي أظهره/ مترعًا بنفايات المدينة العملاقة/ النهر فوقه ينساب/ داكنًا فوقه ينساب النهر/ إليه في الأسفل لا يستطيع ضوءٌ أن يذهب/ ملعونًا يكون إلى الأبد".



فرناندو بيسوا، الآتي من بداية قلقة، العابر بوجوه وأقنعة غير مستقرة، الباقي في نهاية مفتوحة، عاد في هذ الكتاب كي يُثبت من جديد أنه بنصوصه وقصائده ورسائله "لا توجد سكينة سوى حيث لا يكون".

------------ 
(*) صدر كتاب "فرناندوا بيسوا - رسائل ونصوص"، من ترجمة وتحرير وائل عشري، في 410 صفحات، عن "الكتب خان" للنشر والتوزيع بالقاهرة، فبراير 2017. تصميم الغلاف للفنان حاتم سليمان.
(**) وائل عشري، قاص ومترجم مصري، من مواليد 1974. تخرج في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وحصل على الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة نيويورك. صدرت له مجموعتان قصصيتان هما "سأم نيويورك"، و"الإغراء قبل الأخير للسيد أندرسون".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024