العصر الذهبي لأغاني السجن

أحمد ناجي

الثلاثاء 2020/02/11
يخبرنا "يوتيوب" أن واحدة من أكثر الأغاني استماعاً في مصر، خلال الأسابيع الماضية، أغنية "حضرة السجان على الجدعان قفل بابه". وهي صاروخ موسيقي آتٍ من عالم المهرجانات، يغنيها أحمد موزة، من كلمات مصطفى الجن. موضوع الأغنية هو السجن، وتفاصيل الحياة اليومية فيه، في مزيج من الحزن والأسى وألم الفراق على الأخوة المساجين.


يظهر السجن كتيمة أساسية ومتكررة في عدد من الأغاني والتجارب الموسيقية المصرية في السنوات الأخيرة، طبعاً ما عدا ما يُعرف بالأغاني المستقلة،، حيث فرق شارموفرز، ووسط البلد، مشغولين بالغناء للأمل و"بكرة اللي جاي حلو"، إلى آخر أكاذيب التنمية البشرية. لكن في عالم المهرجانات والموجة الجديدة من الراب، يحضر الفقر، السعي لعمل فلوس، المخدرات، والسجن الذي، بين كل خمس مهرجانات، يرد ذكره كتيمة متكررة، بكل تفاصيله المهينة، من دخول السجن عارياً، والجلوس مقرفصاً، والحبس الانفرادي.

هؤلاء الذين يغنون عن السجن والذين يسمعون أغاني السجن الجديدة، ويجعلونها الأكثر استماعاً، ليسوا مجرمين ولا نشطاء سياسيين، بل شباب من طبقات متباينة يعيشون تحت ظل حكم السيسي، حيث الجميع معرض للاختطاف من الشارع والضرب، والتعرية، والصعق بالكهرباء، ثم الرمي في السجن بلا محاكمة، ثم يترك ليتعفن بلا تغذية ولا رعاية صحية، وأحياناً من دون فرصة لمشاهدة الشمس، ليذوي العقل ويخرب الجسد، ولا مانع لدى السلطات أن يكون الموت مصيره...

السجن في المهرجانات، ليس مكاناً للفخر على طريقة أغاني اليساريين القدامى "حيث الورد اللى فتح في زنازين مصر" في أغاني الشيخ إمام. بل قَدَر، يدخله الفقراء بسبب المرشدين والمخبرين، أو بلا أي سبب محدد. هو مكان للألم والانتظار، والأغاني تتحدث عن هذا الوجع، أو مثلما يقول موزه من كلمات مصطفى الجن: "سجن العذاب قافل بابو/ وحشونا ناس عننا غابو/ دانا اخويا طول في غيابو/ من بعدو حاسس اني يتيم/ .. حاطين حديد بينى وبينو/ وانا ببكي من دمعة عينو/ الضيقه صعبه الله يعينو/ طب فك كربو قادر يا كريم".


حوّل السيسي البلد إلى سجن كبير، داخله زنازين أصغر للأشقياء الذين يحاولون التفكير في باب للخروج أو يبحثون عن أمل. أصبح الخروج من السجن، أو تفادي دخوله، حلماً لكل شاب مثلما غنى مروان بابل متمنياً "سنة ريحتها فلوس/ ريحتها خمرة ريحتها دروس/ جت سليمة ومش محبوس/ الحمد لله". "الحمد لله الذي أبعدني عن السجن"، دعاء كل مصري ومصرية عند العودة إلي المنزل، إذ لا تعرف ما الذي قد يودي بك إلى هناك.

في هذا المناخ ينتشر الخوف واليأس وبهما يحكم السيسي، لكنه يدرك أن استمرار الحكم بالصعق بالكهرباء والسجن، بعد فترة، يفقد أثره، كما أوشك أن يتحول السجن إلى تجربة على الجميع أن يمروا بها. لذا فعلى النظام كل فترة أن يزيد الجرعة، أن يتوسع في بناء السجون، وتطوير أدوات التعذيب والإذلال ونشر الرعب.


لذا، منذ سبتمبر/ أيلول الماضي مثلاً، أدخلنا نظام السيسي في المستوى التالي من التجربة وشعارها "التعذيب والكهرباء حق للجميع". فلم يعد التعذيب يقتصر على أعدائه الأوائل من الإسلاميين والمتهمين في قضايا الإرهاب، بل توسع ليشمل النشطاء المدنيين، وغير النشطاء من المساجين، ليصبح التعذيب جزءاً أساسياً من بنية منظومة "العدالة" والسجن في مصر.

التعذيب الآن في مصر لا يُمارس من أجل استخراج معلومات أو اعترافات من المتهمين، فالأجهزة الأمنية تتجسس على الجميع، والعساكر يوقفون أي عابر في الشارع ويفتشون في موبايله وربما سرواله الداخلي إذا أرادوا. وليس لدى المواطنين ما يخفونه، فالجميع منتهك وتحت الرقابة، حتى أن التسريبات التي تنتهك الحق في الخصوصية أصبحت لا تدهش أحداً، لدرجة أن رجل أعمال شهير سرَّب الأمن فيديو جنسياً له منذ أسابيع، لم يلفت انتباه أحد، بل ولم يصبح حتى تراند ولو لساعات معدودة. ليس الغرض من التعذيب نشر الرعب والفزع لدى النشطاء السياسيين، فالجميع يعيش بالفعل حالة الخوف والقلق تلك، وغير قادر على التفكير في أي مستقبل، بل الكل مشغول بتفادي الصعق بالكهرباء. التعذيب الآن للتسلية والمرح، ولتأكيد السيادة والتفاخر بين الأجهزة الأمنية. فكل جهاز أمني، حين يلقي القبض على أحدهم، يعذبه، لكي يتفاخر بمدى إجرامه مقارنةً بالجهاز الآخر، وليظهر مدى حماسه لإيديولوجيا النظام الحاكم في مصر.. إيديولوجيا الرعب والفزع.

صحيح أن فاتورة الحكم بالخوف واليأس، مكلفة. لكن نظام السيسي لا يهتم، فأنظمة أخرى في الخليج وأميركا وحتى الاتحاد الأوروبي، تتكفل بدفع هذه الفاتورة... الحمد لله، الأوروبيون تكفلوا بتركيب أجهزة تكييف في أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز، والأميركان يمدونه بعربات نقل المساجين ومعونة عسكرية كل عام من أجل استكمال هذه الانجازات. بل، وحرصاً على الشفافية مؤخراً، أصبح نظام السيسي يعلن بوضوح عن حالات التعذيب، ويحرص على تعذيب النشطاء الذين يدرسون في الخارج أو الذين تربطهم علاقات عمل مع مؤسسات أوروبية، مثل تعذيب الباحث باتريك جورج، مؤخراً، عند إلقاء القبض عليه أثناء عودته في اجازة قصيرة بينما يدرس الماجستير في ايطاليا، أو القبض على عدد من نشطاء ملف الحق في السكن الذين قدموا استشاراتهم وأبحاثهم لمفوضية الأمم.

مصر تثبت ريادتها للعالم واستقلال قرارها، بقدرة حاكمها على التنيكل بالمصريين وتسخيرهم لكل أوهامه ومشاريعه الهزلية.

لن يتوقف السجن، لن يتوقف التعذيب، لن تشهد مصر تحت إدارة السيسي أي مصالحة أو انفتاح سياسي أو تطور في ملف الإعلام. كل ما يمكن أن نشهده، نميمة سياسية، بينما السيسي يلهو بجنرلاته ورجاله، يعزل هذا ويعين ذاك، يرفع هذا وينقل ذاك، ليظلوا منشغلين بمكاسب تافهه ومحدودة بينما هو على كرسي الحكم يتربع، ويعرش، ويغرس، ويستفحل. يتسلل إلى كل تفاصيل حياتنا، حتى موسيقى المهرجانات التي تحولت مصدراً للفرح والبهجة والموسيقى القادرة على بعض الحركة والرقص في أجساد المصريين، أصبحت تعكس هذا الجحيم. وعلى أغاني السجن، تحاول أجساد المسجونين التحرر رقصاً.. لعلّ وعسى..

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024