فانسن ميساج: روائي الشركة النيوليبرالية

روجيه عوطة

السبت 2020/05/30
كلما أصدر فانسن ميساج، كتاباً، فاجأ القراء به. فشغيل السرد هذا قد واظب، ومن رواية إلى أخرى، على تقديم أدب، لا يمكن القول أن وصفه بـ"الجديد" هو مجرد مبالغة. وما يبدد شبهة المبالغة هنا هو كون ذلك الأدب يستمد جِدَّته من تناوله لموضوعات "جديدة"، بمعنى أنها تتعلق بالعالم الراهن، كما أنه يستمد جِدَّته من جعل تناوله لها تشييداً لعالم روائي ليس سائداً.

فقد عقد ميساج أدبه على الذهاب، ومنذ روايته الأولى، إلى مطارح لم يعتد الأدب التدخل فيها، بل بقيت، ولأسباب عديدة، عصية عليه، أو مقفلة أمامه. ففي حسبان ميساج، من الضروري أن يحل الأدب أينما كان، على أساس دوره التقليدي كمُسجّل، كشاهد، لكن أيضاً على أساس دور آخر، وهو تكثير وجهات النظر. وهذا، بغاية تكسير وجهة النظر الواحدة التي تحتكر إبداء المحيط بها.
هكذا، مضى ميساج في روايته الأخيرة "كورا في توهانها" (حرفياً، كورا في الحلزون)، إلى شركة تأمين اسمها "بوريليا"، متوقفاً من صفحة إلى أخرى عند قصة موظفة فيها، وهي  كورا. تعيش هذه السيدة مع بيار، وطفلتيهما، متطلعة من أسرتها الصغيرة إلى المستقبل. لكن، وفي حين عرض عيشها الهانئ، يحدث أمر ما في الشركة حيث تعمل، وهو تغير في إدارتها، أو بالأحرى في كل انتظامها، لتصير، وفي خاطر كورا، مكاناً مختلفاً عما اعتادته. على أن ذلك التغيير، ولانه يحصل في العام 2010، فهو مرتبط بأزمة اليورو، التي تبدو، في مطلع الرواية، محورية، تاركةً أثرها، ليس في الشركة فحسب، إنما في كل ما هو على علاقة بحركة رأس المال، في كل الأشياء.

وليس عيش كورا بمعزل عن هذه الحركة. بل، على العكس، فهي تخضع لها. ربما، إحدى مهمات السرد هو أن تبين هذا الخضوع من جهة، مثلما تبين، ومن جهة أخرى، محاولة التفلت منه.

في الجهة الأولى، يتجسد الخضوع في شكل معين، وهو العنف البارد إذا صح التعبير. فطوال التنقل من وقيعة إلى ثانية، لا سيما داخل الشركة، يحضر هذا العنف في العلاقات بين الموظفين: في انقطاعهم عن بعضهم البعض، في تنميطهم لبعضهم البعض، في محو ألسنتهم الخاصة لتماثلهم في التفوه بلغة آحادية، وهي لغة الماركتنغ أو لغة "المانجمينت"، في تداولهم لاهتماماتهم اليومية التي تحاول أن تنسيهم معاشهم الدائر حول تأمين الاحتياجات ودفع الفواتير... في كل هذا، ثمة عنف، يتضح في الكثير من الأحيان عبر انفجار الموظفين بالبكاء، أو عبر صراخهم، لكنه لا يتبلور سوى في وضع كورا. فلا تقدر على البكاء، ولا على الصراخ، إنما يلتهمها ذلك العنف من داخلها، وسرعان ما يصيب جسدها.

في الجهة الثانية، هناك مساعي كورا للتفلت من أحكام الشركة، أي من حكم منطقها، وحكم علاقات القوة، وحكم تفاهة العمل. فها هي تحاول تفعيل بغيتها السابقة، أن تصير فوتوغرافية، مثلما أنها، وقبل هذا التفعيل، تستند إلى دفترها، الذي تكتب فيه يومياتها. هذه مساعٍ من دون مخاطرة نوعاً ما، لكنها، حين تنطوي على هذه المخاطرة، فكورا تقرر، وفي لحظة حاسمة، أن تهرب. تجلس وراء مقود سيارتها، وترحل من دون أي وجهة محددة، تاركةً عيشها كله كما صاغه عملها في الشركة، أو كما صاغته الشركة لها، راغبةً في غيره: عيش بطيء، ليس مأهولاً باليقين، يوتوبي، والأهم، أن لا عنف فيه.

فعلياً، استطاع ميساج أن يجعل من كورا نموذج الموظفة في عالم شركاتي، نظامه نيوليبرالي خالص. وربما، تمكنه من ذلك مردّه أنه اعتمد في سرده، أو في الجانب الأوّلي منه، على التوثيق. فبالاستناد الى التوثيق، من المتاح التنبه إلى تفاصيل ذلك العالم، وتشييده سردياً عليها، كي لا تعود تفاصيل، بل لتصبح من أسُسه: عادات الموظفين، ثيابهم، ضحكاتهم، نشاطهم، أداؤهم، عواطفهم، كل ما يتعلق بروتين حياتهم. وبهذه التفاصيل-الأسس، التي لا تنفصل عن حركة رأس المال وإنتاجه بالطبع، يبدو فانسن ميساج مُقرّباً روايته من كونها تحية إلى هؤلاء الموظفين، وتذكّر لهم، كما أنها، وعلى وجه الدقة، تحية وتذكر إلى كل بطلة مثل كورا بينهم.

بطاقة بيبلوغرافية
إلى جانبه تدريسه الأدب المقارن في جامعة "باريس الثامنة"، نشر فانسن ميساج (1983) حتى الآن ثلاث روايات: les veilleurs، Défaite des maîtres et possesseurs، ومؤخراً، Cora dans la spirale. وجميع هذه الروايات صادرة عن دار seuil في باريس.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024