"ولادة نجمة".. ليدي غاغا تنزع رموشها لتعود إلى "الأنا"

شفيق طبارة

الأربعاء 2018/10/10
السينما ليست قطعية الأوصاف. قد لا تحتاج حبكة معقدة أو إبهاراً فنياً عظيماً. يصحّ أن تكون رقيقة، عندها سنتلمّس أصالتها بسهولة. بهذه المشاعر الخالصة خرجتُ من فيلم "ولادة نجمة" الذي سيبدأ عرضه قريباً في صالات السينما اللبنانية. انها قصة هوليوودية لا تموت. عرف برادلي كوبر -مخرجاً للمرة الأولى-كيف يقدّمها. لم يغير الكثير، تركها كما هي، مع دفقٍ مضافٍ من المشاعر، مزيد من الطاقة والقوة ودفعات من الحب والدفء. هي الجرعة المثالية لخلق سينما بسيطة بمذاق جميل.

"ولادة نجمة"، قصة كلاسيكية أميركية بامتياز، تُستعاد للمرة الرابعة(*). قصة عن الحب، الفن، الإدمان، والنجاح. إنها التركيبة التقليدية: طريق النجومية يبدأ من علاقة رومانسية بين مغنية هاوية، ومغن ناجح يدفع بنفسه إلى الهاوية. نتبع الموسيقيين الاثنين، جاكسون ماين (برادلي كوبر) نجم موسيقى الروك المثقل بمشاكل نفسية وجسدية وإدمان على الكحول التي تدمر مسيرته، وآلي (ليدي غاغا) النادلة بموهبة موسيقية فطرية، والتي رفضها منتجون كثر لأنها لا تطابق المعايير الجمالية المعتادة. هي قبيحة تقول مراراً، لاعنةً أنفها الكبير. صدفة تقود إلى تلاقي الاثنين، يسمعها جاك تغني في الحانة حيث تعمل، يعيشان ليلة خيالية، تتوقف عقارب الساعة، وتولد الشرارة بينهما، فيبدأ المشوار.

"ولادة نجمة" قصة حلم يتحقق لينقلب في لحظات كابوساً، قصة صعود نجم، وأفول آخر. في الجزء الأول حياةٌ وألوان وفرح. نرافق الاثنين في جولة، نشعر أننا نشهد حفلة موسيقية حيّة. يتغير الايقاع ما أن تخطو آلي خطوتها الأولى في مشوراها الفنّي، لتبدأ الدراما وتصبح الأماكن والموسيقى مألوفة أكثر، لأنها أكثر شبهاً بالنسخ القديمة من الفيلم.

لم يصنع كوبر فيلماً موسيقياً بحتاً، فالحوارات ليست على شكل قطع موسيقية، إنما تخلل الفيلم وقفات موسيقية وأغانٍ. استعان بطابع القصة الكلاسيكي بطريقة كافية ومناسبة لطبيعة الفيلم، مع كيمياء بين الابطال وأغانٍ جيدة، بأداء متقن. عرف كيف يستحضر القصة بمزيج من موسيقى الروك في نسخة السبعينيات، والميلودراما في نسخة الخمسينيات، مع إضافة جرعة جيدة من الحداثة التي تعطي حيوية للقصة القديمة.


خاض كوبر غمار الإخراج للمرة الأولى بطريقة مهنية. صحيح أنه كان حذراً بعض الشيء، لكن طبيعة الفيلم لا تتطلب أكثر من ذلك. أحيا الأصالة ونجح في إرساء التوازن بين الوصول إلى تحقيق الحلم وجرعات عالية من الدراما. أوجد حميمية بين الحبيبين من جهة، وبين كلّ منهما مع فنّه وجمهوره، ثم بيننا وبين فيلمه. قدم شخصياته في الحانات، الحفلات الموسيقية، في الحياة العادية، ومع أسرهم، فعرفناهم أشخاصاً قبل أن يكونوا نجوماً، وباتت أفعالهم وردود أفعالهم مفهومة ومنطقية بالنسبة الينا. أنسن شخصياته ببراعة عبر الميلودراما، هنا تكمن قوّة فيلمه، في أبطالٍ أمام الكاميرا ووراءها.

تمثيلياً، نجح برادلي كوبر في أداء شخصية المغني حتى في اللحظات الدرامية المؤلمة. واضحٌ هو الجهد الذي بذله لإتقان الدور، للحصول على صوت أجش، لتعلم القليل من العزف على البيانو والغيتار. ثم تحضر ليدي غاغا بسطوتها المعتادة، نجمة في أداء متكامل. تمتعنا بأداء أغانٍ كلاسيكية بصوتها مثل La vie en rose.

في المشهد الحميم الأول، يطلب جاك من آلي إزالة الرموش الاصطناعية. هذه اللفتة الصغيرة تزيل الزيف بين العاشقين أولاً، وبين غاغا ومشاهديها ثانياً، كأنها أرادت كشف وجهها الحقيقي عبر الشاشة الكبيرة. تخلّت نجمة الغناء عن صورتها المبالغ فيها في الأعمال الفنية التي صنعت شهرتها. نراها امرأة عادية بمكياج شبه معدوم، بشخصية فنية بعيدة مما عوّدتنا عليه. نزعت عنها ثوب غاغا المبهرج وسمحت لكاميرا كوبر بالتودد إليها، وبالتباهي والتغني بحضورها الآسر. كم كان جميلاً أن نراها كما هي، متحررة من الصور الاستعراضية الاصطناعية التي ميزت مسيرتها الموسيقية.

في الفيلم تتحرر آلي أيضاً من أزياء ارتدتها في بداياتها في الحانة، خلف أزياء الدراغ كوين، تكمن فنانة حقيقة موهوبة. وهذا هو الصراع بين الفن والصناعة الفنية، في صورة الفنان نفسه كشخصٍ حقيقي وكصورة فنية منمقة ومصطنعة. في مرحلة معينة، يكشف الفيلم هذا الصراع، ممجداً صورة الفنان السامية والطبيعية، لكن المعذبة، وهنا المفارقة. خلف الأزياء والمكياج وحياة الشهرة، فنان معذّب وضائع بسبب ابتعاده عن "أناه" التي يعود اليها فقط عبر الموسيقى.

لا يمكن القول إن "ولادة نجمة" بنسخة 2018، فيلم عظيم ولا حتى تحفة فنية، لكنه جُبِل بحب واخلاص، ولهذا يستحقّ أن يعتبر الأفضل بين كل النسخ السابقة من العمل. جميل أن نرى هذه القصة الكلاسيكية تستمر من جيل إلى آخر، محافظةً على ألقها ونجاحها. نتناسى التكرار للمرة الرابعة، أمام المشاعر الجميلة التي تعترينا. نشاهد بحب، فنخرج من الصالة بفرحٍ.

تعود ليدي غاغا إلى أناها، إلى ستيفاني جويرمانوتا (اسمها الحقيقي)، فتبهرنا، حتى تنسينا باربرا سترايسند التي أدّت الدور سابقاً، ثمّ تتركنا لنخمن... مَن ستكون النجمة التي لم تولد بعد في النسخة المقبلة؟


(*) ظهرت قصة الفيلم للمرة الأولى في السينما عام 1932 في فيلم "هوليوود بأي ثمن؟" للمخرج جورج كوكور، ويحكي عن لقاء نادلة وممثلة طموحة، بممثل ناجح. هذه البذرة أنبتت فيلم "ولادة نجمة" العام 1937، ثم الإعادة الأولى العام 1954، ومن جديد العام 1976، وكلها تحمل الاسم نفسه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024