الأكاديمي مُخبر محلي؟

شادي لويس

الجمعة 2019/08/02
من أقصى اليسار، يأتي نقد حاد للأكاديمية في دول الشمال، وبالأخص للباحثين العاملين فيها من أبناء مجتمعات الجنوب. فالأكاديمي الجنوبي مخبر محلي بشكل أو بآخر، بحسب أصحاب هذا النقد. ولا يُقصد بكلمة "مخبر" هنا معناها الأمني، بل ترجمة صحيحة، بإيحاءات غير دقيقة، لوصف الوسطاء و"المدروسين" من أبناء مجتمعات الجنوب. 

فالمخبر بحسب هذا المنطق، سواء كان دارساً أو مدروساً، يساهم في مراكمة المعرفة عن مجتمعه في مؤسسات دول الشمال ولدى حكوماتها، وبالتالي تجذير الهوة في موازين القوة بينهما، خصوصاً أن تلك المعرفة ليست متاحة للجميع بالتساوي. الطلاب والباحثون من دول الجنوب يُحرمون في بلادهم من الوصول لتلك المعارف في أحيان كثيرة، إما بسبب عدم توافر الإمكانات المالية اللازمة للاشتراك في الدوريات العلمية وحضور المؤتمرات، أو في أحيان أخرى بقرارات حكومية، كفرض العقوبات وقيود تبادل المعلومات. بمعنى آخر، ترسخ المؤسسة الأكاديمية الفوارق المعرفية الموجودة وتعمّقها، وتعيد إنتاج شروط إنتاجها المادية نفسها. 

يظل هذا كله صحيحاً بالفعل، لكن ذلك النقد التطهري لا يرى سوى نصف الحقيقة، أو على الأقل يرى العالم مقسوماً بين الأبيض والأسود، من دون درجات بينهما. فهذا النقد ذاته ترعرع داخل الأكاديمية الغربية، وكافة النظريات المناهضة للاستعمار، والبَعد كولونيالية، والضد استشراقية، أنتجها أكاديميون تعود أصولهم إلى دول الجنوب، ويعملون في المؤسسة الأكاديمية لدول الشمال. ولم يقف تأثير تلك النظريات وعشرات الآلاف من الدراسات المرتبطة بها، على الجامعات فقط، بل امتد إلى الثقافة الجماهيرية وسياسات الحكومات والرأي العام. ومن ناحية أخرى فإن العوائق أمام الوصول إلى المعارف الأكاديمية أمام أبناء الجنوب ليست مطلقة، ويمكن التحايل عليها ببعض المشقة وبعض الجهد. يضع هذا كله العمل الأكاديمي في حيز رمادي بشكل دائم، يحتاج إلى الفحص وإعادة الفحص باستمرار، للموازنة بين ضرورات الوضع القائم وبين الأخلاقيات، بين التبعات السلبية لنشاط أكاديمي بعينه والفائدة المترتبة عليه.

الأسبوع الماضي، نشرت جريدة "مورنينغ ستار" البريطانية، تقريراً حصرياً عن تلقى كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS)، في لندن، مبلغ 400 ألف جنية أسترليني، من الجيش البريطاني لقاء برنامج "مشورة ثقافية" بدأ العام 2016. وبحسب البرنامج، نظم محاضرون من الكلية، دورات تدريبية لجنود بريطانيين عن ثقافة وتاريخ مجتمعات أفريقية وآسيوية ومن أميركا اللاتينية. وذهبت الجريدة إلى أن "وحدة الدفاع الثقافية المتخصصة" المسؤولة عن البرنامج في الجيش البريطاني، تأسست العام 2010، بعد النتائج الكارثية التي ترتبت على احتلال العراق وأفغانستان. وأشارت الجريدة المرتبطة باليسار البريطاني، بالاسم، إلى الدكتور جلبير الأشقر، ومشاركته في البرنامج. ربما لأنه أكثر الأكاديميين المشاركين شهرة، وبسبب موقفه المناهض للاستعمار والعسكرتاريا. وفي المقابل، فإن جامعة "سواس" المعروفة بميولها اليسارية والمناهضة للاستعمار، لم تنكر ما نشرته الجريدة. 

ويوم الجمعة الماضي، نشر الأشقر خطاباً مفتوحاً من ثلاث صفحات، ولم ينكر هو أيضاً مشاركته في البرنامج، لكنه دافع عن أخلاقيته. 

ولا يعنينا هنا بالضرورة الدفاع عن محاضري "سواس" أو إدانتهم، بقدر ما يبدو النظر في حجج الجدال بين الطرفين ضرورياً. وكما يذهب المدافعون عن البرنامج، فإن وزارة الخارجية والبرلمان البريطاني يتحملان مسؤولية قرارات الحرب، بالقدر نفسه الذي يتورط فيه الجيش. والمطالبة بمقاطعة وزارة الدفاع، بحجة مناهضة الاستعمار، سيعني بالضرورة مقاطعة بقية مؤسسات الدولة البريطانية، بل وربما لو مُدّ الخط على استقامته، فهذا يعني أن دفع الضرائب للحكومة البريطانية يعني مشاركة ولو ضمنية في دعم الاستعمار. 

وتجلب هذه الحجة الجدال إلى عالم الواقع، حيث تتداخل المؤسسات ووظائفها، لكنها للأسف تنتهي إلى نتائج تقسم العالم إلى أبيض وأسود. فما دامت كل المؤسسات تتداخل في مسؤولية الحرب، ولا يمكن مقاطعتها جميعاً، فلا مفر من فالتعاون معها جميعاً. لا درجات من الرمادي أو تدرج من الأبيض إلى الأسود، ولا نسبية أخلاقية. فإما تقاطع كل شيء أو تقبّل بالتماهي الكامل، لا حلول وسطى على الإطلاق.

لا ينكر المعارضون للبرنامج النتائج الإيجابية المحتملة له في الحقيقة، فوعي ثقافي وتاريخي لدى أفراد القوات المسلحة، يبدو ضرورياً ونافعاً، خصوصاً إذا كانت تلك القوات تساهم في عملية حفظ السلام، وتتطلب دراية بالوضع المحلي وتاريخ الصراع. إلا أن السؤال الذي يطرحه منتقدو البرنامج، ليس عن الفائدة، بل عن مقدار هذا الفائدة، ومقارنتها بالضرر المحتمل. وتبدو المعلومات التي تتضمنها الدورة التدريبية، متاحة بسهولة للجيش البريطاني ولغيره، ولا ضرورة ماسة في الحقيقة لمُحاضري "سواس". ومن الناحية الأخرى، فإن بحثاً أكاديمياً متنامياً عن "عسكرة الأخلاق" وتاريخ استعماري طويل، يخبرنا أن عملية تقنين العمليات العسكرية وشرعنتها أخلاقياً، كان جزءا رئيسا من أي عملية احتلال. فعلى سبيل المثال، كان التبرير الأخلاقي لاحتلال العراق، غالباً، أصعب على الإدارة الأميركية من العمليات العسكرية نفسها. وبلا شك، يمكن بسهولة، النظر إلى المشروع بوصفه أداة دعائية. فالجامعة الراديكالية ومحاضروها المعارضين للاستعمار، يسبغون بشكل ضمني مسحة أخلاقية على الجيش البريطاني، وعلى جنوده الأكثر حساسية للمسائل الثقافية، المتفوقين عسكرياً وأخلاقياً على خصومهم (في الأغلب دول الاستعمار القديمة نفسها). 

يذهب المؤيدون للمشروع بأن الدخل المتحقق منه يسمح بدعم العمل البحثي والأكاديمي عن مجتمعات الجنوب ولصالحها، وتبدو تلك الحجة هي الأسوأ على الإطلاق. فتعارُض للمصالح يظهر واضحاً هنا. إذ كيف لأكاديمي يتحصل على دَخل من المؤسسة العسكرية، أن يكون قادراً على نقدها بشكل مستقل؟ لكن يمكن الرد على ذلك أيضاً. فالجامعات تحصل في النهاية على دعم حكومي ومن القطاع الخاص، ولا يعني هذا بالضرورة عدم استقلاليتها. 

في سياق مشابه، دانت "جمعية الأنثروبولوجيين الأميركيين" مشاركة عدد من أعضائها في برنامج للتدريب الثقافي لجنود الجيش الأميركي، وكانت حجتها هو شعار "لا ضرر بموضوعات الدارسة". لا يمكن التأكد قطعاً بأن نتائج عمل بحثي أو تعليمي لن تقود للأذى، فتلك المخاطرة تظل قائمة. لكن أخلاقيات الأكاديميا، كغيرها من الأخلاقيات المؤسسية، تتعامل مع مجموعة من الاحتمالات لنسب المخاطرة، وطرق تفاديها ومدى احتمالية نجاحها. تأتي سلامة موضوعات البحث (الخاضعين للدراسة) وسلامة الأكاديميين وسمعة مؤسساتهم، في لائحة الأولويات الأخلاقية لأي مؤسسة بحثية. وفي حالتنا هذه، يمكن الدفاع عن البرنامج بعشرات الحجج، لكن الواضح أن سمعة الجامعة نفسها والعاملين فيها، تضررت بالفعل، بشكل كبير. 

أما موضوعات البحث، أصحاب التاريخ والثقافة التي تُدرس، فلا تلوح ضمانة لعدم استخدام تلك المعرفة ضدهم، بل إن نسبة هذا الاحتمال عالية جداً. وتظل الشكوك حول الضرر المحتمل من توظيف البرنامج، في شرعنة الحرب أخلاقياً، قوية ومنطقية. ولا يبدو أن الفوائد المفترضة للبرنامج، إن وُجدت، تبرر الضرر المحتمل. 

في النهاية، لا تبدو أخلاقيات العمل الأكاديمي متعلقة بالصواب والخطأ، ولا يمكن إطلاق الأحكام المطلقة بشأنها، لكن المساحات الرمادية التي يتحرك داخلها الباحث والمؤسسة البحثية، والوعي بإمكانات المعرفة الخطرة كونها وجهاً من وجوه السلطة، تستدعي قدراً كبيراً من الحساسية الأخلاقية، وتستلزم انتباهاً لمعايير "اللياقة". فالمسافة بين لأكاديمي و"المخبر المحلي" هي خطوة واحدة لا أكثر في الاتجاه الخطأ. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024