عارف حجاوي الحكواتي الفصيح

بشير البكر

الإثنين 2021/11/22
 
عارف حجاوي كاتب وإعلامي فلسطيني متعدد إلى حد يحار المرء من أين يبدأ معه، وفي أي مكان يجده لكثرة اهتماماته ومشاغله، إلا أنه في نهاية المطاف يمكن الجلوس أمام الشاشة للاستماع عليه، وهو يتكلم بلغة عربية قريبة جدا من المتلقي، ولكنها متينة وتحتفظ بمقومات الجاذبية والأناقة، وله رأي في ذلك يصلح لأن يكون مرجعا، فالكتابة حديث، والحديث أسبق من كل كتابة، والخلاصة أنه نجح في أن يكتب مثلما يتكلم، وساعده على ذلك عمله في الإذاعة، أي راديو بي بي سي في لندن الذي عمل فيه عشرة أعوام، وحين يفسر هذه المعادلة، فإنه يعزوها إلى التعود "تعودت أن أكتب كما أتكلم"، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة كي ينطق الصحافي "كأنه يحكي مع القارئ". وفي تجربة حجاوي ينطبق الرأي على التجربة، ويبدو جليا أن الأصل هو الكلام أو الحديث، وهو الهدف.


شخص لديه شهية غير عادية للكلام. هو ليس مجرد صاحب برنامج تلفزيوني كما هو عليه الحال في "التلفزيون العربي" حاليا، في البرنامج الأسبوعي "سيداتي سادتي"، الذي يقدمه منذ حوالي عامين، ويمكن أن يقدمه أعواما أخرى من دون أن يمل أو يمل المشاهد، وهنا يكمن السر. وإذا أردنا أن نلقي الضوء على هذه الموهبة، فإن أفضل مدخل إليها هو برنامج "سيداتي سادتي"، واول نقطة هي أن حجاوي جذب المشاهد وعوده على نمط معين، وساعده في ذلك ما يتحلى به التلفزيون العربي من هامش اختلاف عن القنوات الأخرى سياسات البرامج، ولذا ترك لحجاوي الحرية في اختيار القالب الذي يناسبه. والعتبة الثانية هي، أن حجاوي يحرص أن يكون طبيعيا وغير متكلف، وهذا أمر اكتسبه من عمله الإذاعي الذي درب لديه موهبة الحضور، وهذا ما تحتاجه الشاشة أولا، وما ينشده المتلقي التلفزيوني. والنقطة الثالثة هي التميز من خلال برنامج عند حدود الصحافة، الأدب، السياسة، العلوم، وحتى الاقتصاد. يخوض فيها جميعها من دون أن يتورط في واحد منها، وبذلك حقق للشاشة ما تريد من دون تساهل وسطحية وتخصص. هو نوع من المنوعات المشغولة كي يلتقي من حولها أوسع قطاع من المشاهدين، يستمتع ويستفيد. معادلة المتعة والفائدة هي أخطر مسألة في الصحافة والكتابة، وفي التلفزيون والسينما على وجه الخصوص، من السهولة أن يختار البرنامج أحدى هاتين الثيمتين، ولكنه في هذه الحالة سينحاز إلى شريحة واحدة فقط، ومن غير المضمون أن يكسب الرهان. وبالتالي، فإن برنامج "سيداتي سادتي" الذي يقوم على شخصية حجاوي، هو تطوير ذكي وناجح للحكواتي الذي عرفته بلداننا في فترات مختلفة من التاريخ، قبل ظهور الراديو والتلفزيون والسينما، وكان حاضرا بقوة في مقاهي دمشق والقاهرة وبيروت. تراث شعبي قام على التسلية والتثقيف، ولذا أمتاز حكواتي عن آخر بسعة ثقافته ومعارفة وقدرته على الأداء الذي يشد الجمهور، الذي كان يداوم على الحكاية حتى لو استمرت عاما. ويشهد كتاب مسرح ورواية أن تأثرهم الأول هو بالحكواتي، وهناك من أخذته الحكاية إلى مدى بعيد، ليصبح كاتبا كبيرا مثل نجيب محفوظ، الذي يعد حكواتي مصر المعاصر بامتياز، وهذا سر وصوله إلى أوسع القطاعات من القراء في مصر وخارجها. وهناك جمال الغيطاني أيضا في "الزيني بركات" ومعظم أعماله.


عارف حجاوي طرح شخصية الحكواتي بثوب جديد، ولكن أبقى على الفضاء العام، واختار أن يقدم برنامجه في حلقاته الأولى وهو يتحرك داخل مكان صغير، عبارة عن صالون يحتوي على كنبه وطاولة وكرسي من طراز حديث، وهذا أمر مدروس، ولكنه استقر لاحقا وصار يقدم برنامجه جالسا، ولا يتحرك من وراء مكتبه إلا حين يستقبل ضيفا ليجلس معه جانبا وجها لوجه، وهذا ما حصل في الطبعة الجديدة من البرنامج الذي صار يقدمه من فلسطين، بعد أن بدأ في لندن، وقطع فيها شوطا كبيرا. وبدا هذا التقشف في الديكور والطريقة في تقديم ساعة تلفزيونية مغامرة في الفترة الأولى، وهناك من حكم على ذلك بالفشل، بسبب ما وصفه البعض بـ"جمود المشهد"، وقلة المحفزات البصرية المساعدة على جذب الجمهور، إلا أن هذا الرهان لم يدم طويلا، واستطاع البرنامج أن يقلّع ويكون لنفسه سمعة جيدة، ويحجز مكانا وجمهورا من المشاهدين الأوفياء، وذلك رغم أنه ظهر بالتزامن مع وباء كورونا، ويعود الفضل في النجاح إلى عارف حجاوي، وهامش الحرية الذي منحه له التلفزيون العربي، وهذا قرار جريء يستحق الاعتراف بصوابيته، حيث لم يسبق لحجاوي أن ظهر على الشاشة بالشكل والمضمون اللذين شكلا مبنى برنامج "سيداتي سادتي"، الذي أصبح بصمة من بصمات التلفزيون العربي.


حجاوي خارج التصنيفات المتداولة، ونجد في شخصيته التقليدي والحداثي، الشرقي والغربي، الشاب والكهل، المتعة والرصانة. وأهم عناصر قوة هذا الإعلامي المهنية المعززة بخبرات تلفزيونية وإذاعية وثقافة موسوعية واسعة خولته تقديم الجديد والجذاب والشيق. يحدث المشاهدين عن عملية سلق البيضة في سبع دقائق، ويشرح هذه المسألة بشكل علمي، ويدلل عليه من خلال معادلات رياضية بعيدة عن الجفاف، ومن ثم ينتقل إلى استعمال الشدة في العربية، ويأخذ مثلا "على أهبة الاستعداد". ويبرهن على أن أهبة بلا شدة، ونكتشف أن أصل الكلمة "هب هب"، وهو فعل الأمر الذي يعطى للإبل من أجل الرحيل، ويقفز بعدها إلى قيس بن الملوح، وقصيدته الشهيرة عن ليلى( تذكرت ليلى والسنين الخواليا)، التي هي في نظر حجاوي مثل بيت جارهم، الذي كان يزداد طابقا كلما تزوج ولد من أولاده، ليدلل ان هذه القصيدة تروى بروايات وزيادات كثيرة. ويذهب إلى تقديم كتاب اشتراه في واشنطن عام 2003 وهو من تأليف عائلتين عن أهم شخص في ألف عام، ويأتي في رأس القائمة مخترع المطبعة الألماني يوهان غوتنبرغ، ومنه يذهب إلى دور العرب في الطباعة من خلال مكبس عصر الزيتون، ويعرج على الحرف والطباعة ودور الفينيقيين في ذلك، وسبب عدم مناسبة اللغة الصينية للطباعة لأنها بلا حرف، رغم أن الصينيين سبقوا غوتنبرغ، ومن ثم يحدثك عن تجربته في جريدة الشعب في فلسطين وصف المادة بأحرف الرصاص، ويأتي على تفاصيل من الذاكرة وشخصيات مثل المصحح أبو يعرب. كل هذا يمر عليه بخفة وسرعة، ولكنه يقدم للمتلقي كمية من الأخبار والمعلومات التي يحتاج إلى ساعات، لو حاول البحث عنها في الكتب أو مواقع الأنترنت.


يبقى أن هناك مسألة مهمة وهي انتقال حجاوي من وراء المكرفون إلى أمام الكاميرا ليقدم برنامجا طويلا. ويمكن التوقف عند عدة نقاط حين يتم عبور هذه المسافة، منها رهبة الأداء والعلاقة الخاصة مع صورته كمقدم برنامج، وهذا أمر ليس سهلا لأن للكاميرا سحر وسطوة، يمكن لها أن ترفع الذي يقف أمامها، ويمكن أن تطيحه أرضا. هي امتحان من نمط السهل الممتنع الذي لا يجتازه الجميع بسهولة. صحيح أن حجاوي ليس جديدا على المهنة، ولكن الانتقال من المسموع إلى المرئي يحتمل اجتياز مسافة، يحتاج ردمها إلى موهبة خاصة، يمكن لها أن تستر العيوب الصغيرة التي تبرز خلال هذه العملية، ولم تكن تلك الموهبة سوى الحكواتي، والتي غطت بسحرها على كل الهنات التي برزت في بدايات برنامج "سيداتي سادتي".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024