"هنا القدس":أغاني ما قبل النكبة.. و"نوتة" جلبها فلسطينيون للبنانيين

حسن الساحلي

السبت 2019/04/27
يعاد الإعتبار مؤخراً لموسيقى النصف الأول من القرن العشرين، خاصة مع الجهد الذي تبذله مؤسسات مثل AMAR "آمار للبحث وتوثيق الموسيقى العربية" التي استعادت قسماً من أرشيف ذلك الزمن وتعيد ترويجه وإنتاج اسطوانات منه كل فترة وأخرى (آخرها للطنبوري ومحي الدين بعيون الذي ستطلقه بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيسها). وانعكس هذا تنويعاً في ريبرتوار الفرق الموسيقية في بيروت، حيث بدأت تتردد أسماء غابت طويلاً عن الساحة وارتبطت بنمط غناء كان يُنظر إليه بطريقة دونية سابقاً. ينطبق هذا على عرض "هنا القدس" (الثلاثاء 30 نيسان) الذي يعتمد على أغاني قبل النكبة، وتنتجه "مترو المدينة" بمبادرة من سلوى جرادات، المغنية التي عرفت سابقاً مع فرقة "نوى" إلى جانب مصطفى سعيد، وتحاول اليوم اتخاذ طريق منفصل لها.


يشارك في الغناء مع جرادات، سماح أبي المنى وفراس عنداري، ويعتمد العرض على طقاطيق وأدوار ومونولوغات وردت أسماؤها في مجلة الإذاعة التابعة لإذاعة القدس، ثاني إذاعة عربية بعد القاهرة، والتي استمرت تجربتها 12 عاماً فقط. وعبر مؤسسة AMAR وصلت سلوى جرادات إلى اسطوانات تضم أغاني وردت أسماؤها في المجلة، وهي الطريقة الوحيدة المتاحة بما أن التسجيل الإذاعي لم يكن ممكن تقنياً يومها، وليس هناك من أرشيف فعلي للإذاعة.

تتراوح الأغاني بين فولكلورية ومصرية لمغنين من فلسطين مثل روحي الخماش، ماري عكاوي، ومحمد غازي، وأسماء معروفة من لبنان ومصر كانت ناشطة يومها في الإذاعة مثل لور دكاش، إيليا بيضة، أسمهان، ومحمد عبد الوهاب وغيرهم. وهي التجربة الثانية حول إذاعة القدس بعد إصدار فرقة "نوى" الفلسطينية مجموعة اسطوانات لروحي الخماش ومحمد غازي.


أحد التحديات التي تواجه العرض، هو اختلاف أسلوب الغناء في تلك الفترة عن الأسلوب الذي يألفه الجمهور، وتحاول جرادات تعويض الفارق من خلال تطعيم العرض بأغاني معروفة اليوم لكن تنتمي لتلك الحقبة مثل "يا دي النعيم"، "فرّق ما بينا الزمان"، "آمنت بالله"، بالإضافة لتقديمها نوعاً فنياً قليلاً ما نراه وهو الديالوغ، الذي كان سائداً في المحطات الإذاعية وتقدمه جرادات بالإشتراك مع سماح أبي المنى ("بتريد إبقى بالأوضة"، "آه يا عيني يا كبدي عليه")، ويمكن اعتباره الجزء الاكثر ترفيهاً في العرض، من دون الإنتقاص من قيمته الفنية.

تأسست الإذاعة في العام 1936 بمبادرة من سلطات الإنتداب البريطاني، وكانت تبث عشر ساعات يومياً قسمت بين العربية، الإنكليزية، والعبرية. القسم العربي امتلك استقلالية نسبية خاصة في البرامج الثقافية، وتعززت هذه الإستقلالية بعد انتقال القسم العربي إلى مركز منفصل، حيث أصبح التوجه عروبياً وقومياً بشكل واضح، وسبّب بإغلاقها أكثر من مرة وتعرضها في العام 1939 لتفجير أدى إلى مصرع أحد العاملين فيها.

عينت سلطة الإنتداب شخصيات من المجال الأدبي والصحفي لإدارة الإذاعة (الشاعر ابراهيم طوقان، وعجاج نويهض، وعزمي التشاتيشي) التي تعاونت بدورها مع أدباء وشعراء فلسطينيين منهم خليل سكاكيني الذي كتب النشيد العربي، وخليل بيدس مترجم تولستوي والأدب الروسي، وأسماء كثيرة شكلت وسطاً أدبياً تحلق حولها.


تركيز الإذاعة الأكبر من الناحية الثقافية كان منصباً على تحسين اللغة العربية الفصحى، حيث منعت اللغة الدارجة "الأقل مرتبة ورقيّ"، ويبدو أن الجو العام عزز هذا التوجه بسبب رواج اللغة العبرية المنافسة، ما جعل من تعزيز الجذور اللغوية موقفاً سياسياً قائم بذاته. ويقال إن مجرد خطأ لغوي واحد يرتكبه المذيع أن يشغل مدينة القدس لأسابيع. تنوعت البرامج بين فنية وأدبية ضمت مسرحيات وروايات إذاعية تمثيلية ومسابقات شعر و"حكايا أدبية" تكون مأخوذة غالباً من التراث العربي القديم، بالإضافة إلى تقارير مسجلة عن أحداث معينة أو مواضيع اجتماعية واقتصادية، وبرامج ترفيهية – كوميدية.

أما في ما يخص الموسيقي، فقد استقبلت الإذاعة الأسماء نفسها أحياناً التي تظهر في إذاعة القاهرة، أي أهم المغنين خلال تلك الفترة في مصر وحلب والبلدان المجاورة. قدمت فرقة الإذاعة مستوىً عالياً مقارنة بما كان موجوداً يومهاً، وربما كانت الأكثر تدريباً. كان التركيز على كتابة النوتة شبيهاً بالهوس بقراءة الفصحى، فمن من شروط الدخول إلى الفرقتين العاملتين (تألفت كل واحدة من 20 عضواً أدارها عازف القانون محمد عطية ويحيى مسعودي ثم لاحقاً تأسست أوركسترا على يد يوسف بتروني) كان إجبار الموسيقيين على دخول دورات تدريب على الكتابة. ومن المعروف أن الفلسطينيين الذين هجّروا لاحقاً إلى بلدان الجوار، ساهموا في تعليم النوتة في المناطق التي حطوا فيها، ما يظهر بشكل خاص في بيروت التي وفق الياس سحاب لم تكن شائعة الكتابة فيها، وتعتبر الهجرة الفلسطينية إليها من أسباب النهضة الموسيقية التي شهدتها في الخمسينات (انتقل إلى بيروت حليم الرومي ومحمد غازي وصبري الشريف الذي أصبح لاحقاً مدير فرقة الأخوين رحباني، ونقل إليهم مفاهيمه حول الأغنية الفولكلورية التي لم تكن موجودة كثيراً في لبنان كما كان الحال في فلسطين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024