غسان كنفاني العائد دائماً إلى حيفا

محمود الزيباوي

الأحد 2018/07/15

يوم 8 تموز 1972، اغتيل غسان كنفاني في سيارته أمام منزله في محلة مار تقلا، فوق تلة الحازمية المشرفة على بيروت. نقلت الصحافة اللبنانية الحدث فور وقوعه، ورثت الأديب الفلسطيني والناطق الرسمي بلسان "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ورأت أن اغتياله يشكّل دليلا على أن إسرائيل تخشى أقلام المقاومة الفلسطينية كما تخشى بنادقها.


وقعت الجريمة في الساعة 11 والدقيقة 45 من قبل الظهر. كانت السيارة متوقفة في كاراج البناية التي يقطن غسان كنفاني الطابق الأول منها، في شقة تعود إلى شقيقته فايزة، زوجة الأردني حسين نجيم الذي يعمل في الكويت. في ذلك اليوم، خرج غسان من المنزل برفقة لميس ابنة شقيقته، وقال لزوجته الدانماركية آني: "اعملي لنا أكل طيب، هلق بنرجع"، وصعد إلى سيارته، وهي من نوع أوستن 1100، وأدار محركها، وبقيت لميس في الخارج بانتظار اخراج السيارة من بين أعمدة الموقف، وبعد لحظات، دوى انفجار قذف بها إلى مسافة خمسة أمتار، فاصطدمت بالحائط، ولفظت أنفاسها على الفور.

دمّر الانفجار السيارة تدميرا تاما، وأحدث فجوة كبيرة في أرض الكاراج عمقها 40 سنتمترا. تناثرت أشلاء غسان مع قطع السيارة في دائرة يزيد قطرها على النصف متر، واستقرّ الجزء الأعلى من جسد القتيل في منحدر عمقه ثلاثون مترا، وعُثر على إحدى يديه فوق سطح بناية مجاورة. سارع سكان البناية لاستطلاع ما حدث، وكان بينهم عدد من الضباط. وحضر رجال الاطفائية، ووجدوا بقايا السيارة المشتعلة، وأُخمدت النار المتصاعدة منها، كما تم اطفاء اللهب المشتعل في العشب على بعد أمتار من البناية، ونُقلت لميس إلى المستشفى حيث أكد الطبيب الشرعي الدكتور هنري صعب حدوث وفاتها. كانت الصبية في السادسة عشرة من عمرها، وكانت قد وصلت من الكويت مع والدتها وشقيقتها قبل يومين من وقوع الحادث الذي أودى بحياتها. وقالت والدتها فايزة بعد بضعة أيام: "يوم الجمعة ذهبنا جميعا إلى البحر، أخذنا غسان بسيارته، كنا ثمانية. لو نسفونا لكانوا قضوا على العائلة، لقد مرحنا كثيرا وما كنّا نعلم أنه يومنا الأخير مع غسان ولميس. وصباح السبت، اتصل حسين والد لميس من عمان ليزف إلى العائلة خبر قبول انتساب لميس إلى كلية الطب في الجامعة الأردنية، وسألوه: متى ستأتي إلى بيروت؟ أجاب: بعد يومين. وأقفل السماعة، وبعد دقائق كانت لميس في طريق الشهادة".


سارعت عناصر من شرطة الجيش إلى موقع الانفجار، ثم حضر رجال الدرك يتقدّمهم العقيد سليم درويش، كما حضر مدّعي عام جبل لبنان الشيخ كميل جعجع، والمحقق الأول نقولا رزق الله، والمعاون نظير سابا من الأدلة الجنائية. وقيل في التقرير الشفهي الأوّل أن المتفجرات التي استُخدمت في تنفيذ الاغتيال يزيد وزنها على الخمسة كيلوغرامات من الديناميت الشديد الانفجار، "وقد جرى توضيبها بواسطة قنبلة يدوية عادية يُفتح صمامها، وتُربط بخيط رفيع لتنفجر عند أول عملية اهتزاز".


روى أحد سكان البناية، واسمه مضر دادا، انه رأى شخصين يخرجان من الكاراج حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، فظنّ انهما لصان جاءا ليسرقا الأرانب التي يربيها، فصرخ بهما، فهربا. أخذت دوائر التحقيق بهذه الشهادة، ورأت أن لهذين الشخصين علاقة أكيدة بالانفجار المدبّر. من جهة أخرى، سارع بعض أركان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والمنظمات الفدائية إلى الموقع، وتولت عناصر منهم تجميع الأوراق والأشياء المتناثرة، وقيل إن من بين ما عُثر عليه بطاقة كُتب عليها بالإنكليزية "مع تحيات سفارة إسرائيل في كوبنهاغن"، وبطاقة أخرى تحمل اسم "حيفا".


سقط غسان كنفاني وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وكان يومها عضوا في المكتب السياسي للجبهة الشعبية والرجل الرابع في هذه الجبهة، والناطق الرسمي باسمها. وُلد في عكا، وغادرها مع أهله وهو في الثانية عشرة إثر النكبة، وعاش في صور ثم في صيدا، قبل أن ينتقل إلى دمشق حيث تابع دراسته الثانوية والتحق بعدها بالجامعة. أعجب بحركة القوميين العرب، وعمل في مدارس اللاجئين في سوريا، ثم توجّه إلى بغداد وكتب في صحيفة حركة القوميين العرب، وبقي هناك سنتين، ثم انتقل إلى الكويت وعمل مدرسا حتى 1960، حينما سافر إلى بيروت، وعمل في مجلة "الحرية" الناطقة باسم القوميين العرب، ثم رأس تحرير جريدة "المحرر" وملحقها "فلسطين". استقر في العاصمة اللبنانية، ودخل أسرة "الأنوار"، ورأس تحرير ملحقها، كما كتب في العديد من الصحف والمجلات اللبنانية والعربية. تولى رئاسة تحرير مجلة "الهدف" الخاصة بالجبهة الشعبية عند انشائها في صيف 1969، وواصل من خلالها نشاطه في الصحافة والسياسة. في موازاة هذا النشاط، برز غسان كنفاني في ميدان الأدب، ونشر مجموعة من القصص والروايات أشهرها "رجال في الشمس" (1963)، "أم سعد" (1969)، و"عائد إلى حيفا" (1970).


رثت أسرة "الأنوار" غسان كنفاني، وكتب رئيسها سعيد فريحة: "بكيته رغم معرفتي بأنه كان، على انسانيته ورهافة حسه، يكره البكاء ويخشى على إرادة النضال في الأمة العربية من طوفان الدموع. استشهد وهو في أول السباق، وجاء استشهاده يؤكّد وحدة النضال بين القلم والبندقية، ولكنه جاء من جهة ثانية يفجّر النقمة والغضب ضد جريمة الاغتيال وصانعيها البرابرة في تل أبيب. ان في اغتيال غسان كنفاني أمام منزله في بيروت دليلا جديدا على ان إسرائيل تخشى في المقاومة الفلسطينية الأقلام كما تخشى البنادق. وشرف المقاومة أن يكون فيها قلم مثل قلم غسان، وعبارة للنضال كعبارته، وسباق على الاستشهاد كسباقه. وشتان بين سباق الأخ الشهيد وسباقي أنا الابن بين الدمعة والكلمة، بين الحزن على شبابه والنقمة على قاتليه". 


احتلت صورة الشهيد غلاف "ملحق النهار"، وحمل العدد مجموعة من الشهادات الأدبية، أطولها مقالة بقلم محمود درويش. كتب الشاعر في وصف صديقه الشهيد: "لم تكن رجلا. كنت إنسانية. ولم تحمل صليبا، كمتظاهر يحمل لافتة وراية. صليبك لا يراه أحد. حتى انت لا تراه. لأنه يأتيك من الداخل. لأنه يسكنك، كما يسكن البرق المفاجأة، وكما يسكن الكون الديمومة. كان الصليب ينتصب إليك. وكان الوطن ينتسب إليك. وهما البديلان الوحيدان. ليس جمال الموت ما جعلك جميلا، فبأي حق يستعيرك، ويتركنا بلا ندم؟ ليس جمال الموت، ولكنه حقيقة المأساة في لحم انسان حقيقي وفنان حقيقي. الصدق اغتراب، فلماذا كنت مغتربا إلى هذا الحد؟". وختم درويش شهادته بالقول: "طوبى للقلب الذي لا توقفه رصاصة. لا تكفيه رصاصة. نسفوك، كما ينسفون جبهة، وقاعدة، وجبلا وعاصمة. وحاربوك، كما يحاربون جيشا، لأنك أكبر من جبهة وعاصمة. ولأنك أعظم من جيش. لأنك رمز، وحضارة وجرح".


في شهادة قصيرة، أشار عصام محفوظ إلى ثنائية الأديب والمقاتل التي مثّلها غسان كنفاني، وقال: "وسط الدوي الزائف، سيظل صوتك هو الأعلى، لأنه الأكثر حقيقة. فالثورة والسياسة لا يتّفقان. ان للثورة وجها واحدا، وصوتا واحدا، وحقيقة واحدة. انني أحني رأسي حتى الأرض أمام أشلائك المقدسة. ولينبض صوت الحب والحقد معا في كل مكان". وكتب سمير عطا الله في المعنى نفسه: "كان غسان صديقي قبل كل شيء. كان صديقي وكنت أحبه، وكنت أقول له دائما أنني أغبط فيه الكاتب بقدر ما أحسد فيه المقاتل، وكنت أقول له دائما ان فلسطين تحوّلت من خلاله إلى حنين شخصي بعدما كانت قضية قومية، وان من خلاله لم تعد عكا مدينة مستحيلة".  

في الصفحة الأخيرة من الملحق، كتب أنسي الحاج معلّقا في زاويته الأسبوعية: "وهو يسلّمني مقاله، سألني محمود درويش: ستكتب عن غسان كنفاني؟ قلت: سأقرأ ما يكتبه الآخرون، وأرى إذا بقي ما يُقال. ولم أكن قد قرأت كلمة محمود درويش. وكنت أفكر: لا بد أن يبقى مجال، حتى لو كتب مئة واحد. فغسان كنفاني هو بحر. وكتبت بدوري. ثم قرأت كلمة محمود درويش. وطبعا قرأتموها. ألم يكن معي حق، بعد مقال كهذا، أن أمزّق ما كتبت؟".


في الواقع، كتب أنسي الحاج مقدّمة لهذا الملف لم تحمل توقيعه، وفيها: "ها هم يتبارون في رثائك، كأنّك شيء ذاهب. آه، من يرثي بركانا؟ هذه لحظتك، فلا تجمع أشلاءك ولا تعد. لا تعد، لا تنتظرنا في المهاجر. كان يجب أن نراك، أن نعرفك، أن نسير معك قبل اليوم. ولكن الموت لم ينضج فينا. نعزّي أهلك؟ لا. نعزّي أنفسنا؟ لا. نذهب إلى جبل الكرمل ونعزّيه. نذهب إلى شاطئ عكا ونعزّيه. نذهب إلى فلسطين ونعزّيها. هي المفجوعة. هي الثكلى. نعزّيها أم نهنّئها؟ لا أدري. فهي التي سترتّب عظامك، هي التي ستعيد تكوينك من جديد. ونحن هنا، سنموت كثيرا. كثيرا نموت، إلى أن نصبح فلسطينيين حقيقيين، وعربا بلا تاريخ. ولكنني أستأذنك الآن، أستأذنك يا غسان في البكاء قليلا. فهل تأذن لي بالبكاء؟ هل تغفر لي؟ أما كنت تحبّني يوم كنت هناك".

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024