بعد التلميح.. التلطيش

روجيه عوطة

الخميس 2021/04/15
حين يولد التطليش في نتيجة موت التلميح، يعمد الكتّاب الى تضمين نصوصهم ما يدعى "لطشات"، وهي بمثابة جُمل أو عبارات لها وقع اسمها بالطبع، أي وقع اللطش. بالتالي، يكون التلطيش هو وسيلة لإنتاج هذا الوقع بما هو الغاية منه كشكل-قول. وبطريقة أخرى، حين يأخذ القول هذا الشكل، فيغدو مساوياً للطش. بذلك، يمكن الإشارة الى أنه لا يعود على معناه من ناحية أن قول شيء ما، لا يعني اللطش، لا يعني مزاولة عنف ما، إنما عكسه، لكن، في الوقت نفسه، يكون القول على معناه من ناحية أنه يبرز ما قد يحويه التكلم من عنف ملازم له، بحيث أنه ليس طاهراً منه. على هذا النحو، التلطيش هو شكل يقتلع القول من معناه -وبهذا يصير القول مسكوناً بضده- وبالفعل ذاته، يسويه على معناه مباشرةً أو فورياً- وبهذا يصير قولاً مفرطاً.

على أن شكل-القول ذاك، وحين يعتمده هؤلاء الكتّاب في نصوصهم، فهم لا يجعلونها، وكما في التلميح، على نسخة ذكية من صلة مُرسِل-ملتقٍّ، إنما، على نسخة رديئة منها. هذه النسخة تفيد بالآتي: الكاتب، وفي حين أنه المُرسِل، الذي يبعث بنصه الى متلقّين هم القرّاء، يعمد، في لحظة ما، الى اختزالهم في قارئ بعينه لا يحدده، فيقدِم على إرسال لطشة اليه. هذه اللطشة هي عبارة أو جملة يعتقد أن القارئ ذاته سيفهمها، وسينلطش بها، بمعنى ستزعجه. على هذا النحو، رداءة تلك النسخة تتعلق باختزال المتلقي في قارئ بعينه، بحيث أنه هو الوحيد، الذي، وحين سيصل النص اليه، سيتلقاه، فينزعج. بالتالي، الرداءة تلك ترتبط بجعل النص موجهاً الى قارئ، كما لو أنه حديث معه دون غيره، وهو فعلياً ليس بحديث، بل مجرد "ملطشة"، يعني قطع لاحتمال أي حديث. لكن الرداءة ستزداد، مع اقتناع المرسل بأن بقية القراء، وفي حين تلقيهم نصه، سيفهمون لطشته، مثلما أنهم سيسرّون بها أو بالأحرى به من باب كونه لطّاشاً.

باختصار، نسخة مُرسِل-متلقٍّ هي نسخة رديئة لأنها ترد هذه الصلة الى بدئها، الى حرفيتها إذا كان التعبير دقيقاً، من دون أي افتراض حولها: افتراض أن المتلقين كثرة، وافتراض أن النص لا يُفهم بطريقة واحدة دون سواها، وقبل ذلك، افتراض أن المرسل هو، ولكي يتحدث، لا بد أن يتحدث مع شخص ما.

في هذه الجهة، لا بد من ملاحظة، ولو بدت عويصة نوعاً ما، وهي أن التلطيش، وعلى مقلب من مقالبه، ليس سوى شكل-قول يريد منه المرسل إيجاد متلقٍّ في حين اصطدامه بكونه ليس سوى مفترض، وبكونه ليس سوى كثرة مفترضة أيضاً. في النتيجة، هو يوجده في شخص ما على أساس أن حديثه يجب أن يكون حديثاً معه، وإلا عندها لا يكون حديثاً. من هنا، تصير صلة مرسل-متلقٍّ، وبنسختها الرديئة، هي صلة مرسل-متلقٍّ يُستدعى، من أجل أن تشتغل، بحيث أنها، ومن دونه، تُبقي المرسل بلا حديث. في هذا السياق، يمكن الإشارة الى أن التلطيش يريد تحقيق التواصل، أو لا يريد أن يكتفي بافتراضه. كما لو أنه، وفي مطافه الأخير، كناية عن تواصل، لكنه يعترض على قاعدته الأساس، اي أنه يعترض على كونه يقوم بالافتراض، فهو تواصل لا يبغي أن يكون كذلك، أو بالأحرى يكابر عليه. فقد يصح الاعتبار بأنه شكل لقول قد نضب سلفاً في هذا التواصل، الذي يقبض عليه، وبذلك، يحاول أن يتفلت منه، لكن، وبفعل نضوبه، لا يستطيع ذلك، فبدلاً من أن يتفلت منه، يتفتت داخله بلا أن يحقق غايته.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024