"عدّاد الورق" لبول شرايدر.. كيف لأميركا التكفير عن خطاياها؟

محمد صبحي

الثلاثاء 2021/09/28
"كن مثل النتوء الذي تنكسر عنده الأمواج باستمرار: يبقى ساكناً، ويروّض الماء الغاضب من حوله. لا تقل "يا حسرتي، هذا يحدث لي". لا، بل "أنا محظوظ، فبالرغم من حدوث هذا لي، إلا أنني أتحمّل من دون ألم، من دون أن يكسرني الحاضر ومن دون خوف من المستقبل". في الواقع، كان من الممكن أن يحدث شيء مشابه لأي شخص، لكن ليس بإمكان الجميع معرفة كيف يقاومون من دون الاستسلام للألم. فلماذا ترى في ذلك نقمة وليس نعمة؟" (ماركوس أوريليوس - التأمّلات).

حتمية تبعية الأحداث، العبء الناجم عن خطايا الماضي، التكفير والخلاص، المشيئة الإلهية، النعمة... تعود هواجس سينما بول شريدر في فيلمه الجديد "عدّاد الورق"(*)، هذه المرة من طريق مجاز المقامرة. لكن الحبكة الفرعية المرتبطة بالماضي العسكري لبطل الفيلم، المتميّز أوسكار إيزاك، هي التي يكمن في تفاصيلها شيطان خطيئة شخصية وجماعية، لا يمكن التكفير عنها سوى بإعادة تمثيلها، لمرّة أخيرة دموية وحاسمة.

نافس الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي الأخير، وهو من إنتاج مارتن سكورسيزي، الذي وقّع له شرايدر أربعة أفلام حتى الآن ("سائق التاكسي"، "الثور الهائج"، "الإغراء الأخير للمسيح"، "إخراج الموتى"). لم تكن عملية إنجازه باليسيرة، إذ توقّف تصويره بسبب الجائحة وظروف الإغلاق، ثم تكرّر الأمر أثناء عملية تحريره. أبعد من ذلك، تجدر الإشارة إلى إعلان المخرج عبر صفحته الفايسبوكية، طلب الشركة الموزعة للفيلم منه الامتناع مؤقتاً عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما أثار نقاشات حامية بمداخلاتٍ إشكالية حول مواضيع مختلفة، مثل الجنسانية والأنوثة والعبور الجنسي. وبجملة الإشارة إلى ما اعترى مصير الفيلم خارج إطاره السينمائي الخالص، ربما يكون من المفيد التفكير في التطورات الجيوسياسية الأخيرة، بعدما استعادت "طالبان" السيطرة على أفغانستان، وانسحبت القوات الأميركية من البلاد، وعمليات الإجلاء الجوي للأفغان المتعاونين مع الغرب أثناء وجودهم.

كل هذا يحوم في ذهن المشاهد أثناء مشاهدته "عدّاد الورق"، ويؤجج بداخله أسئلة وشكوكاً، وهنا يكمن الهدف الحقيقي لسينما بول شرايدر. ليس جمال الفيلم نفسه هو المهم، ولا حركات الكاميرا الجميلة والمبتكرة، ولا الممثلون الموهوبون، ولا السيناريو المهندس بعناية؛ بل تلك التساؤلات المؤرقة - تمامًا مثل تلك التي طرحها شريدر (وسيستمر في طرحها) عبر الشبكات الاجتماعية – بما هي إرث الرؤية المزعجة لكثيرين من دعاة الرطانة الصائبة سياسياً، والإشكالية على المستويين الجمعي والشخصي.. ما يترك المشاهد لاهثاً لالتقاط الأنفاس، مثل تلك المسموعة في خلفية الموسيقى التصويرية مباشرة عقب التترات الافتتاحية.


محقق عسكري سابق في سجن "أبو غريب" سيء السمعة، يعتاش من لعب القمار وينفق وقته فيه، بين كازينو وآخر، متجولًا في أنحاء الولايات المتحدة. لكن عقله لا يتوقف عن إعادته إلى تلك الفترة عندما نسي أنه ينتمي إلى الجنس البشري وتسبّب في معاناة أخيه الإنسان. بسبب أفعاله السابقة، كان عليه أن يقضي ثماني سنوات في السجن، حيث اكتشف أشياء جديدة عن نفسه، لكن أسوأ الذكريات تتعلّق بشخص آخر: قائده العسكري الذي لم يُعاقب، وما زال يطوّر ويروّج طرق تعذيب جديدة. إنها قصة مقامر، يعدّ الورق ويحافظ على انتباهه على طاولات القمار، لكن الأهم هي قصة عسكري سابق يعاني صدمة ثقيلة وأشباح ماضٍ لا يريد الرحيل. يسمّي نفسه "ويل تيل"، يحبُّ الروتين، ويعيش في الغالب في لا-أماكن، مثل الكازينوهات والموتيلات، حيث لا اتصال حقيقياً مع أحد، ولا وجود لأي شيء سوى الوحدة واللاطمأنينة، ويغطّي أثاث غُرفه الفندقية بملاءات بيضاء (بطريقة مشابهة لأسلوب الفنان والمعمار الراحل كريستو)، ربما لأنه مهووس بالنظافة، أو حتى لا يترك وراءه أثراً. ممارس لشكل فريد من أشكال الحياة الرهبانية، وتحرّكه تلك الرغبة المسيحانية في ترك الحياة الأرضية والانضمام إلى المسيح في الحياة الأبدية (باللاتينية: Cupio dissolvi)، وهو أمر شائع بين العديد من شخصيات سينما شرايدر. كلمات المشيئة والنعمة موشومة على ظهره، تمثّل مصيراً لا يستطيع استيضاحه، بعدما صار وراءه بالفعل.

في السجن أصبح ويل مولعاً بالقراءة. لا، لم يقرأ "مقامر" ديستويفسكي، فمن السهل إدراك اهتمام شرايدر المستمر بالكاتب الروسي العظيم، وإنما "تأملات" ماركوس أوريليوس، الإمبراطور الروماني والفيلسوف الرواقي. وربما، من أجل تحليل "عدّاد الورق" بشكل أفضل، فالأمر يستحق البدء من هنا. يُعرف الكتاب أيضاً باسم "أحاديث مع النفس"، ونراه في بداية الفيلم أثناء قراءة البطل فيه في محبسه. بمبادئه حول الاستبطان، والامتناع عن العواطف، والثقة في المنطق، وقبول المرء لمصيره، يصبح الكتاب للفيلم بمثابة الخيط الرئيسي لانعكاس فلسفي يمزج بين الرواقية والكالفينية، ويُملي كلّ عمل وانعكاس للبطل. وبهذا المعنى، فإن "عدّاد الورق"، في جوهره، مونولوغ شخصي ومناجاة داخلية طويلة، على الطراز البريسوني (نسبة إلى السينمائي الفرنسي روبير بريسون)، يقطعها القليل من التدخلات الصوتية التعليقية.

الصوت السردي لبطل الفيلم قليل ومتناثر ومكتوب بعناية، وغالباً ما يركّز على وصف قواعد اللعبة وإبراز معانيها المجازية من دون نوايا تعليمية أو إسقاطات مبتذلة. لمرة واحدة، وهذا شيء نادر في فيلم عن هذا الموضوع، لا شيطنة ولا تهويل في وصف القمار، فهو بالنسبة لبطلنا-الضد، يمثّل علاجاً نفسياً شافياً وتصريفاً للأفكار السيئة، وليس شيطاناً يجب تجنّبه، وهذا ممكن لأنه يمارسه بازدراء صميمٍ للمال، أو على الأقل بلامبالاة مطلقة تجاهه ولمجد الفوز.

ليس من الصعب تخيُّل شرايدر نفسه متكلمّاً بصوت بطله. بنصّه الدقيق والمحبوك، يشرح شرايدر لنا شغفه بلعبة "بلاك جاك" بسبب مبدئها السَبَبي، ومنطقها الرياضي الحاكم، وبالتالي، من الممكن، من طريق عدّ الأورواق الملعوبة وضبط الاحتمالات المتبقية، ممارسة السيطرة أو على الأقل اختبارها. هنا، يبرز الموضوع الرئيس الأول للفيلم: الماضي وما حصل فيه وما نتج عنه، لا يمكن تغييره. ثم هناك لعبة البوكر، حيث يستحيل فعلياً التحكم في الورق - وليس من قبيل المصادفة أن تكون هذه هي اللعبة التي سيتعيّن على ويل خوضها لإتمام اتفاقه مع ممّوليه - لكن خلال فترات الجمود الطويلة في اللعبة، تتعمّق في أذهان الخصوم، و حتى بداخلك، وبالتالي تتكشّف أمامك الاحتمالات. ثم هناك المراهنة، حيث لا تتحدّى المنطق ولا الأشخاص الآخرين، بل تتحدى القَدَر ومشيئة الربّ. وهنا أيضاً، من النافل، لا سيطرة، كل شيء مُحدَّد مسبقاً. أما بالنسبة للروليت، فالرهان المعقول الوحيد هنا هو الرهان على اللون الأحمر أو الأسود: احتمالان لا ثالث لهما، فوز أو خسارة، ولا بدائل أخرى متوقعة.

لكن، كما أسلفنا، فـ"عدّاد الورق" ليس فيلم مقامرة كلاسيكياً، وسرعان ما سيفسح الكيتش التقليدي عن المشاركة وربما الفوز في دورة بوكر، المجال، لآخر يلحّ ويسكن عقل البطل: التكفير عن أخطاء الماضي من خلال الانتقام. أو، للدقة، استعادة الأشباح المروّعة لقتلها. ترافقه شخصيتان في تحقيق هدفه: الأولى ليندا (تيفاني هاديش) وسيطة ممّوليه، والأخرى كيرك (تاي شيريدان)، وهو ابن زميل سابق خدم معه في الجيش الأميركي. الأخير سيلحق بمصير والده، في عجلته لتحقيق الانتقام العادل على الأرض. والكالفيني مثل شرايدر يعرف جيداً أن المصير أمرٌ لا مفرّ منه. أما الذنب موضع التكفير، فهو خطيئة دنيئة وجريمة صريحة لم يكن البطل مرتكبها الوحيد. الجيش متورّط بمقاوليه ومهندسي طرق التعذيب وقادته الأعلى رتبة، وأمّة بأكملها متواطئة. وراياتها المجيدة، وليس من طريق الصدفة، صارت الآن لباساً صاخباً يرتديه خصم البطل على طاولة البوكر، "مستر USA"، فيما مشجّعوه المزعجون يرددون "USA USA USA" كلما حقق فوزاً. يقدّم المخرج نقداً شرساً للوضع الحالي لبلده، أميركا التي يصوّرها جحيماً يُقاد أهله بنزوعهم الاستهلاكي، أرضاً قاحلة منزوعة الإنسانية، سيركاً بشعاً مليئاً بالمسوخ والأرواح المتألمة.

يمكن للمرء أن يغفر للفيلم بعض الإطالة، خصوصاً في مشاهد الحوار، وكذلك الحضور المفرط للأغاني في الموسيقى التصويرية (اثنتان بتوقيع روبرت ليفون بين، من فرقة بلاك ريبيل موتورسيكل كلوب)، وذلك حين يتعلّق الأمر بفيلم ينزل البئر الأخلاقي لأميركا لتشريح أزمة القيم التي تجتاح المجتمع الأميركي اليوم عبر رحلة فردية في الجانب الأكثر قسوة وعذاباً من السينما المتجاوزة التي نظَّر لها شرايدر في سبعينيات القرن الماضي. "عدّاد الورق" خلاصة فلسفية، قوامها تعاليم وتأملات شخصية، يهدف البطل من خلالها إلى التواصل مع نفسه بشكل أساسي. مزيج متقن من الكالفينية والرواقية الفلسفية - ماركوس أوريليوس هو المرشد الحقيقي في هذه القصة - حيث انفصال البطل عن الحبّ والعالم لازمٌ وضروري، لأن كل شيء مقدَّر سلفاً والحقيقة مجرد "ظاهرة" بسيطة: فقط اكتشف الورق. وفوق كل شيء، يعود الفيلم إلى الفكرة التي طاردت وسكنت أفلام شرايدر بأكملها، من "سائق التاكسي" إلى "التعديل الأول": ضرورة العنف والتدمير الذاتي، والشغف اليسوعي وتمثّل المسيح، إذا كان المرء يريد حقاً التكفير عن خطاياه.

(*) يُعرض حالياً في القاهرة، وقريباً في بيروت.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024