جيريمي كلابان لـ"المدن":قصة اليد هي فيلم أكشن، وإثارة، ورعب

محمد صبحي

الجمعة 2020/02/28
في باكورته الإخراجية، "أضعتُ جسدي"، يقدّم الفرنسي جيريمي كلابان (1974) فيلماً ممتعاً بقصة مثيرة تلامس أنواعاً سينمائية مختلفة من الفانتازيا والرومانسية والشعرية والرعب، جلبت له ترشيحاً لجائزة أوسكار أفضل فيلم رسوم متحركة، كما رُشِّح لثلاث جوائز سيزار، سيحصد إحداها - على الأقل - يوم الجمعة.


"أضعت جسدي" فيلم يتنقل بين أنواع فيلمية مختلفة، متتبعاً يداً تبدأ حياتها المستقلة بعد انفصالها عن جسدها، بالاستناد إلى رواية مصوّرة للفرنسي غيوم لوران بعنوان "هابي هاند". يجمع الفيلم بين الواقعي والخيالي في سرد حكايتيه المتقاطعتين حول يدّ تبحث عن جسدها، وشاب يتيم يبحث عن الحبّ. حكاية عامل توصيل البيتزا، نوفل، المغرم بغابرييل، التي تواصل معها صوتياً ذات ليلة ممطرة أثناء توصيله إياها إحدى الطلبيات. وحكاية يدّ نوفل، المفصولة عن جسده في لحظة سهو بسبب ذبابة.

في تكشُّف تاريخ نوفل السابق، وحياة يده الطليقة، تستبطن حكاية الفيلم السيريالية مسائل واقعية تماماً، محلية وعالمية، ليس أقّلها إخفاقات العلاقات العاطفية المعاصرة في عصرٍ فرنسي مأزوم بثقل إرثه الاستعماري ومفاعيل راهنه المضطرب، أو أزمات الإنسان المعاصر في المدينة الكبيرة: الوحدة، والتغلب على الخسارة، وإيجاد هدف في الحياة. ثراء الموضوعات التي يومئ لها الفيلم ليست دليلاً على انتهازية صانعيه، كما يفعل عادة سينمائيون يحشدون أفلامهم بعناوين رئيسية و"كلام جرائد"، بل إن الفيلم يتحاشي استثمار بعضها لجلب أي ثقل إضافي مستوهَم. "أسمع كثيراً بعد العروض أن الناس مندهشون من أننا لا نفعل أي شيء بحقيقة أصول نوفل المغربية. كان هذا اختياراً واعياً، لأنه لا يلعب بصدق أي دور في المغامرة التي يخوضها. في رأيي، سوف يستفيد العالم إذا كنا أكثر وعياً بما نتشاركه وأقل تأكيداً على ما يميّزنا، مثل الأصل واللون"، يقول كلابان.

من المثير أيضاً، كيف يتصلّ الفيلم، بطريقة مدهشة، مع فيلم فرنسي آخر مغروس في وحل الواقع وآثامه. فحكاية "أضعت جسدي"، في أحد خيوطها، هي نظرة أخرى على حياة الشباب المعطّلة في أحياء باريس المهملَة، كما يُظهرها لادج لي في فيلمه "البؤساء" (رُشِّح هو الآخر لجوائز أوسكار وسيزار).

"المدن" التقت كلابان للحديث عن فيلمه، فكان هذا الحوار.

 


بدأت فكرة الفيلم قبل سبع سنوات. لماذا أخذت كل هذا الوقت لإنجازه؟

صناعة الأفلام تقوم بالأساس حول إيجاد شخص يؤمن بمشروعك ويريد الاستثمار فيه. الآن، من المقبول عموماً أن أفلام الرسوم المتحركة صارت شيئاً أكبر من قصص الأطفال المليئة بالحيوانات المحبوبة، لكن أفلام الرسوم المتحركة للبالغين تأتي أيضاً في أشكال كثيرة مختلفة. "أضعتُ جسدي" كان مشروعاً يصعب تسويقه في جملة واحدة جاذبة. أفلام الرسوم المتحركة القصيرة سهلة التمويل بشكل معقول. لكن المشاريع الطويلة غالباً ما تجبرك على تقديم تنازلات فنية، والأطراف الأخرى تفكر معك: هل هو فيلم قابل للتسويق حقاً، أم هناك جمهور معين يستهدفه؟

كان وقتاً طويلاً بالفعل. مررنا بمحاولات كثيرة غير مجدية لجمع المال اللازم. الفيلم نفسه استغرق العمل عليه حوالي سنتين، لكننا قضينا خمس سنوات في عملية البحث عن المال والكتابة وإعادة الكتابة. من ناحية أخرى، لم يكن وقتاً ضائعاً حقاً، فقد منحتنا تلك المدة الطويلة متسعاً للتفكير في الفيلم: على سبيل المثال، لم نتخلّ عن فكرة التعليق الصوتي (voice-over) إلا في وقت متأخر للغاية.

لماذا كان ذلك ضروريا؟

الرواية ناجحة كقصة، وليس كفيلم. في الرواية، تتحدث اليد إلى القارئ، بضمير المتكلم. في المسودات الأولى من السيناريو، حافظنا على ذلك، لكننا وجدنا أن تلك الطريقة لن تنجح عندما نحوِّل إلى الكلمات إلى صور. فكرة التعليق الصوتي كانت مفيدة لرواية القصة بلسان اليد نفسها، لكننا لم "نحسّها". حذفنا كثيراً، على طول الطريق، إلى أن لم يتبق سوى جملتين في النهاية، ثم فكَّرنا: استبعد، استبعد كل شيء. لذا، كان هناك الكثير من التغييرات الكبيرة والصغيرة. في الرواية، لم يكن نوفل عامل توصيل للبيتزا، ولقاؤه مع غابرييل كان مختلفاً أيضاً. عناصر مثل المبنى المقبَّب والذبابة لم تكن في القصة الأصلية. هكذا، عدّلنا شيئاً هنا وأضفنا شيئاً هناك، لسبك السيناريو.

هذه هي الإضافات الكبيرة. الذبابة، على سبيل المثال، تمثّل رمزاً رئيسياً في القصة. إنها تعود للظهور مراراً وتكراراً، وتعمل كقوة دافعة وراء الأحداث المركزية.

كان عليّ إنشاء هذا العالم بكفاءة. حين تعمل على نصّ أدبي لتكييفه سينمائياً، تواجهك مثل تلك العقبات. في وقت ما عثرتُ على فكرة الذبابة كرمز للقدر. رحلة أي ذبابة دائماً ما تكون فوضوية، حتى الذبابة نفسها لا تعرف إلى أين تسير. وهذه استعارة متينة لما تمرّ به اليدّ. لهذا السبب تظهر الذبابة دائماً في لحظات درامية في قصة نوفل.



-  بسبب تشابك قصة نوفل مع قصة اليد المقطوعة، تتغيّر نبرة الفيلم أكثر من مرة. هل كان من الصعب إيجاد التوازن؟

نعم، إنه مزيج من الأنواع الفيلمية. عادة ما يكون من الصعب وضع أنواع مختلفة في فيلم واحد، فعليك أن تختار اتجاهاً محدداً، وإلا تأكل الأنواع بعضها البعض. لكن هذا الفيلم يدور بأكمله حول كيف تتكشّف هاتين القصتين بالتوازي، وإلى أي مدى يبلغ اختلافهما. التوتر الدرامي للفيلم يكمن في هذا التباين تحديداً. قصة اليد هي فيلم أكشن، وإثارة، ورعب في بعض الأحيان. إنها مذهلة بشكل دراماتيكي وفظّة بعض الشيء، رغم احتوائها أيضاً على لحظاتها الشعرية. وهي تتصادم مع القصة الرومانسية حول نوفل وغابرييل، التي هي في المقابل، أكثر أماناً، مع صور أكثر ثباتاً. لذا فقد طلب الفيلم نفسه اللعب مع أنواع مختلفة.

هذا أيضاً يعطي القصة شحنة مثيرة للاهتمام، فالفكرة المبدئية تشبه حكاية خرافية، لكنها في تعقيداتها تأخذ سمة واقعية للغاية.

كان من المهم للغاية أن يتعاطف الجمهور مع اليدّ. كان عليها أن تصبح شخصية لها حياتها الخاصة، وليس دعابة فضفاضة أو أضحوكة لطيفة. لهذا السبب بدأنا في إظهار هشاشة اليد. بالطبع، إنه موقف غريب ومناف للعقل، تلك اليد المقطوعة من الجسم قد ماتت للتو. لكن في المشهد الأول، عندما تعود اليد إلى الحياة، نُظهره كما ولادة. ترى كيف تأخذ اليدّ خطواتها الأولى، تماماً مثل غزالٍ أو كبشٍ وليد.

هل يمكنك قول أي شيء حول كيفية تعاملك مع ذلك تقنياً؟ ما نوع المراجع التي استخدمتها؟

عندما ناقشنا ذلك المشهد الأول، كنا نرى فيلم "بامبي" (يضحك). على أي حال، نظرنا كثيراً في صور الحيوانات كمرجع مساعد في استعارة الولادة. أردت تجنُّب الشعور الذي أحسّه عندما أشاهد تلك السلسلة القديمة "ذي آدمز فاميلي" (سلسلة تلفزيونية أميركية ظهرت في التسعينيات، مأخوذة عن قصة كارتونية صمّمها الرسام الأميركي تشارلز آدامز ظهرت للمرة الأولى العام 1938 - المحرر)، التي فيها أيضاً يدٌ طليقة. صحيح أن بقية الجسم، في السلسلة، انفصل بطريقة خادعة، لكن يتضح أن تلك اليد لا تزال متصلة بسوار معصم. في فيلمنا، تخلّصنا مما يربط اليدّ، وحافظنا على واقعية رسمها وتشريحها بشكل صحيح. تطلَّب الأمر الكثير من الاختبارات لاكتشاف الوضعيات، ومعرفة كيف يمكن أن تجلس اليد، وكيف يصبح المعصم رأساً، وكيف يمكن أن تتصرَّف إصبع مثل ذراع أو يد. اليدّ، كشخصية، لم يتوقفّ العمل على تطويرها.

في الرسوم المتحركة، كل شيء ممكن؛ فلماذا كانت الواقعية مهمة بالنسبة لك، وفي حالتك تحديداً؟

 أردت البقاء قريباً من شكل الجسد الحقيقي، وليس مجرد تصوُّر فضفاض لشكل اليد. لهذا السبب كان مهماً بالنسبة إلي ألا تظهر اليدّ "كارتونية" أكثر من اللازم، على أمل أنه عندما يخرج المتفرجون من الصالة، ينظرون إلى أيديهم بطريقة مختلفة قليلاً.

أيضاً، كانت الواقعية مهمة ليتماشى السيناريو، بعد التعديلات، مع فيزيقية قصة اليدّ. في الرواية، كانت قصة نوفل تدور داخل رأسه، لكننا غيّرنا ذلك، وركّزنا على إبراز حركة الجسد وإيماءات اليدّ وما إلى ذلك.

رغم صعوبات إنتاجه، تبدو حياة فيلمك واعدة. جائزة في "كان"، ثم شراؤه من قبل "نتفليكس". هذا يطرح سؤالاً صار تقليدياً: كيف ترى تجربة المشاهدة السينمائية في "نتفليكس"؟

أنا سعيد بالطبع بصفقة "نتفليكس"، لأن هذا يعني وصول فيلمي إلى عدد أكبر بكثير مقارنة بالبيع التقليدي لموزّعي أفلام منفردين. في الوقت نفسه، أنا محبٌّ وفي للشاشة الفضية، حيث تظهر الصور بشكل أفضل، ودائماً في بالي تجربة السينما، كأي صانع أفلام. هذا ليس نقداً أو شكوى، فقط أعتقد أن الكثير من المشاهد تبرز بشكل أفضل عندما تراها على الشاشة الكبيرة.

-  رسوم فيلمك كلاسيكية وتعطي إحساساً بالقِدَم. أيضاً، القصة تحدث في أوائل التسعينيات، قبل أن تبدأ الهواتف الذكية في السيطرة على مشهد الشارع الحديث. لماذا؟

 كان خياراً مقصوداً. أنا لست شخصاً يؤمن بأن الرقمنة قد جعلت حياتنا أفضل كثيراً بالضرورة. بصرياً أيضاً، أفضِّلُ صور الهواتف القديمة ومسجلات الأشرطة على صور "انستغرام"، أحبّ أن أستخدم يدي للإشارة للتاكسي بدلاً من طلب توصيلة عبر تطبيق "أوبر" الإلكتروني.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024