ثورة.. ولتكن أيضاً على تجارها.. ولنتعلّم من اللبنانيين

ياسر أبو شقرة

الجمعة 2020/02/07
جميل ذلك المشهد الآتي من بيروت لثوراها وهم يقتحمون سلمياً حفلة توقيع كتاب بهدف تخريبه.. ربما لو أنهيت جملتي بهذه الطريقة لاعترض كل عاقل على ما قرأ، لكن عندما تتقصد العقلية الداعمة للأنظمة العربية أن تنهي كلامها كله بهذه الطريقة وهي تقف بجسدها مع الثوار، ندرك أنه ما من عناوينها تُقرأ المكاتيب، خلافاً للمثل الشائع، إنما عليناً دائماً التلذذ بكل حرف فيها وإدراك أهمية وجوده ضمن السياق الكلي، ولا بد حينها من وضع الأحداث في إطارها الأعم لندرك الحجم الفعلي للخطوة التي مشاها الثوار اللبنانيين في طريق الوعي الثوري الذي نريده لثوراتنا.

كان من المفترض أمس أن توقع الكاتبة، ماري جوزي رعيدي، كتابها "القادة الصامتون" بسلام، ضمن أجواء مخملية في "بيت بيروت" السوديكو، إلا أن مجموعة من ثوار لبنان اقتحموا المكان، متسلحين بمكبّر صوت، وفضحوا حكاية الكتاب المعروض بسعر 120 دولار للنسخة الواحدة، الرقم الذي قد تظن للحظات أنك أخطأت قراءته، يعادل 206000 ليرة لبنانية، أي قرابة نصف الدخل الشهري لعائلة لبنانية فقيرة. تلك العائلات التي يشكل أبناؤها جل الثوار اللبنانيين، تهينهم رعيدي بسعر كتاب، صُنع منهم وعنهم، لكنهم لا يستطيعون شراءه، وزعمت الكاتبة أنها كتبت الكتاب كله، بينما تداول ناشطون رسائل أرسلتها رعيدي إلى الناشطين تطلب منهم الكتابة فيه، وهي أعلنت بلسانه مشاركة خالد مزنر بأحد النصوص...

الكاتبة التي لم يكلفها الكتاب شيئاً، إذ طبعته في مطبعة أبيها، تلك المطبعة التي تطبع عادة الإعلانات والأدلة للبنوك التي تنهب لبنان جهاراً نهاراً، وتشكل سداً منيعاً برفقة الطبقة السياسية الحاكمة للبنان، بوجه كل اللبنانيين، لم تتعامل مع الفنانين التي جمعت أعمالهم ضمن الكتاب بأي نوع من الاحترام، بل لم تصلهم نسخة منه أو حتى دعوة لحضور حفلة توقيعه. بل اكتفت بأن تمنحهم حسماً على كتابهم يصل إلى 50%، متعالية عليهم بأنها منحتهم مساحة مجانية لينشروا أعمالهم، ما اضطر معظمهم إلى إعلان تنصله من الكتاب، والتعبير عن غضبهم عند معرفة سعره، والتفكير في ردّ مناسب يأتي على شكل فضيحة للكاتبة والناشرة في حفلة التوقيع.


لم يفكر الثوار للحظة واحدة في أحقيتهم في افتعال هذا الشغب، وقد اعتبروا أن ضرورة حدوثه توازي بأهميتها ضرورة الفعل الثوري الموجه للسلطة. فلم نسمع أعذاراً تشبه ما اعتدنا سماعه في باقي الثورات، تحديداً تلك الأعذار المتعلقة بالأولويات، وأنه من الأولى أن نصب جام غضبنا على السلطة، وأن نركز كل أفعالنا الثورية ضدها. فالثوار يعون تماما أن ثورتهم على النظام بأكمله، وليست فقط على السلطة، وشتان بين الثورتين. إذ تفترض الثورة على النظام، ثورة على ثقافة جماعية سعت السلطات المتعاقبة إلى ترسيخها، محورها الفساد، وأدواتها، الانتهازية، والتسلق، والاستغلال، ومن أولويات الثورة أن تقف في وجه هذه الثقافة مجتمعة، لا في وجه أدوات السلطة فقط، كعناصر الأمن، والبنوك، والمخبرين.

مشى ثوار لبنان خطوة مهمة من خلال هذا الفعل، ليسبقوا جيرانهم، وعساها تكون دليلاً للسوريين، والفلسطينيين، وباقي الشعوب التي تحاول النهوض ببلدانها في سعيها للتخلص من أنظمتها البائدة، وقد آن الأوان لأن نعترف جميعاً بأخطائنا، ونستفيد من الدرس الجميل الآتي من أخوتنا في لبنان. فمع اندلاع ثورتنا في سوريا، ظهر العديد من المرتزقة من شاكلة السيدة رعيدي، وتغلغلوا في مفاصل الثورة السورية، بداية من المعارضة السياسية التي لم يُعرف عنها أي فعل سوى الفساد، وصولاً إلى المجموعات الثورية، مروراً بالكتائب المسلحة، ومؤسسات المجتمع المدني، والأجهزة الإعلامية، وحتى على مستوى بعض الفنانين الأفراد. في كل مفصل كنا نرى المرتزقة ينهبون قضية، يفضل العالم المتاجرة بها، إلى أن تصبح سلعة مملة، على أن تكون قضية عادلة لا بد من الانتصار لها.



ولعل المبرر في ذلك هو أهمية تركيز الفعل المباشر على محاربة السلطة المجرمة في سوريا بمعناها المباشر، وإعطاء الأولوية للحرب عليها، من دون الانتباه إلى أن النظام المتغلغل في آليات تفكيرنا خلال العقود الفائتة، استطاع من خلال الثوار أنفسهم أن يلتف على الثورة ويحاربها من داخلها، لدرجة تجعلك تسأل في بعض الأحيان وأنت تعمل ضمن مؤسسة ثورية: أليس السلوك الذي أراه الآن، هو ذاته ما أخرجني من بيتي لأثور على الأسد؟ ألم يكن النظام الذي أراه الآن، هو سبب ثورتي، وها هو الآن يقدم نفسه بثياب نقيضه؟ لكن مع همجية الأسد المتواصلة، لم يكن ثمة وقت لهذه الأسئلة، رغم أن الجواب عليها كان ليوصلنا لأفضل مما نحن فيه.

يأتي الفعل الثوري المتقدّم لشبان وشابات لبنان، بالتوازي مع خسارة السوريون لإدلب تدريجياً، تلك المدينة الوحيدة التي بقيت خارج سيطرة الأسد، ولو استطعنا الابتعاد عن آلامنا سنتذكر أننا كنا نعرف في قرارة أنفسنا أن هذا ما سيحصل. فقد تُركت إدلب لمن لا يقل إجراماً عن النظام، لكتائب وعصابات فاسدة ومفسدة، أكرهت الناس على ما يرفضونه، وتدخلت في كل تفاصيل حياتهم، عاملتهم بمبدأ صكوك الغفران لا بمبدأ كونهم أحراراً، ونهبت ثرواتهم، وتفشى الفساد في المؤسسات المدنية والعسكرية من دون رقيب. كنا نعرف كل هذا، ولم نثُر على هذه المؤسسات، لأن الأسد وحلفاءه لم يعطونا الفرصة، ولأن هذه المؤسسات باتت مع الوقت تمتلك من القوة ما يجعلها كفيلة بشن حرب علينا لا تختلف كثيراً عن حربنا مع الأسد.

هكذا نعلم أن ثوار لبنان لم يحسنوا الفعل فحسب، إنما توقيته أيضاً، ليضعوا رادعاً لكل المرتزقة، مرة وإلى الأبد، ولن تصل بهم الأمور إلى أن يروا أشخاصاً مثل محمد علوش يمتلك صرحاً في إسطنبول على شكل مطعم من خمسة طوابق، علوش الذي كان مفاوضاً رسمياً باسم "جيش الإسلام"، الجيش الفاشي الذي ادعى لسنوات أنه يحارب النظام، بينما كان يقصف المدنيين في دمشق، الشخص المفاوض للأسد والإيرانيين والروس عن ملف الغوطة الشرقية، والمسؤول عن تسليمها لهم، افتتح مطعما تجارياً من دون أن يدخل عليه أحد حتى ولو بمذياع ليسأله من أين لك هذا وأنت خرجت من حصار ماتت الناس فيه من الجوع. ولا يختلف السياق كثيراً عن فلسطين التي ما أن انتهت ثورتها المسلحة، حتى انتشر المرتزقة فيها كالفطريات، ليطل علينا قبل أيام، بالتوازي مع صفقة القرن، إعلان للتجمع الفلسطيني في ألمانيا عن تسييره باصات إلى باريس من أجل حضور مؤتمر فلسطينيي أوروبا، من دون أن يخجل المعلن من كتابة ما يلي على الملصق: "السعر 110 تشمل السفر والمبيت ووجبات الفطور"، ومن دون أن يداريها بكلام يشبه الرسوم، أو للاشتراك، إنما بلغت الوقاحة أن يكتبوا كلمة "السعر" وهذه هي تماماً ضريبة الالتفات للاحتلال بزيه المباشر ورفض محاسبة البذلات الأخرى التي باتت تمسك زمام أمور الفلسطينيين منذ زمن.

الفيديو الآتي من بيروت خطوة في الاتجاه الصحيح، لا تعني نقاء الثورة اللبنانية من المرتزقة، فالناس ليسوا على طبع واحد، إنما تعلن أن بضعة شبان وشابات استطاعوا أن يطعنوا منظومة فاسدة، غير آبهين لموقفها الشفهي، إن كانت مع السلطة أو مع الثوار، لتكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه الارتزاق، إن كان مع السلطة أو بين المتظاهرين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024