"حكاية ثلاث شقيقات" لأمين ألبر.. إثم الهروب من البوح

شفيق طبارة

السبت 2019/03/09
طريق جبلي متعرج. عبر الزجاج الأمامي منظر بانورامي مهيب، إنها أعماق الأناضول، حيث الجمال الريفي أخّاذٌ خادعِ. داخل السيارة، هافا (هيلين كانديمير) ابنة الثلاثة عشر عاماً تبكي، إنها عائدة من رحلتها الصغيرة إلى المدينة. ينتظرها والدها على الباب، لا يبدو سعيداً. هافا عادت إلى سجنها المجتمعي، إلى بيت الأسرة الصغير. هي ليست العائدة الوحيدة، شقيقتاها ريحان (سمري إيمبوزيا) ونورهان (إيوس يوكسل) تنضمان إليها. تلاشت أيضا آمالهما في حياة أفضل بعيداً من هذه القرية. عاد الجميع إذاً إلى مكان البدايات الأولى ولكلّ منهن أسبابها. يعدن تحت سقف واحد مع أب متسلط، بينما لا تزال عيونهنّ تشخص المدينة كفرصة بعيدة للحرية. المستقبل المجهول والمزعزع، التصادمات الأسرية، التنافس الطفولي، القلق الوجودي، الظلم الاجتماعي إنها "حكاية ثلاث شقيقات".

لا شكّ أنّ العنوان يحتوي قصة الفيلم الثالث للمخرج التركي إمين ألبر. نوع من القصص الشعبية الساحرة التي تجذب منذ الدقائق الأولى. تشبه إلى حدٍّ كبير الدراما المسرحية حيث الحوارات الطويلة، والأسرار الملعونة، لشخصيات هشة في محيط عائلي فريد بانتظار الشتاء ووسط مناظر طبيعية خلّابة. هنا يستحيل كلّ شيء سجناً للفتيات. سجن لا يمكن الفرار منه.

فيلم أمين إلبر الجديد ليس من خارج سياق مسيرته، في "حكاية ثلاث أخوات" يقفز إلى موضوع فيلمه الأول "وراء التلة" (2012)، القوة الخفيّة للسلطة الأبوية. في الفيلمين، رجال متربّعون في "مجلس الراكي"، متحلّقون حول النار خلال الليل، يشربون الراكي، ويقررون اعتباطياً كيف ستكون عليه حياة النساء. في فيلمه "وراء التلة" لحظات مضحكة، يلعب التركي على حبال السخرية على خطأ غبي لا مفرّ منه من أحد الرجال. أمّا في "حكاية ثلاث أخوات" الوضع أكثر قتامة. سخرية الفتيات من الرجال وحتى من أبيهنّ، لا تعني أنّهن قادراتٌ على المواجهة، هنا لا تستطيع أيّ امرأة فعل أي شيء في وجه السلطة الذكورية، الأب لا يريد للثلاثة أن يعدن إلى تحت سقف بيته، "كان عليك أن تصفعهن" يقول لمن خدمت بناتهن في منازلهم.


في المجمل مشاكل شخصيات الفيلم هي نتيجة الهروب من البوح بأية حقيقة بين الأفراد، تعيش الأسرة التي التم شملها عن غير قصد ورغماً عن الوالد "الحنون" في مكان ضيق بلا كهرباء. الأب حصراً لديه غرفة نوم خاصة، بينما تحشر الأخوات الثلاثة مع زوج إحداهنّ في غرفة المعيشة قرب الموقد المفتوح. ريحان، نورهان وهافا يردن الخروج من المنزل بأسرع وقت ممكن، وهنا فقط تلتقي رغباتهنّ مع الوالد الذي يريد التخلّص منهنّ بأسرع وقتٍ ممكن. في المساحة المكتظة والضاغطة يتحوّل التواصل إلى مواجهات، إلى دراما عائلية كلاسيكية، إلى كارثة ستطفو بعد فترة من الزمن.

الضيق يفتت تضامن العائلة: ضيق المساحة والأفق. هنا رصيد المرء استعباد الآخر وهذه فكرة مدمرة أخرى، السطوة تكمن في استعباد النساء وتقرير مصيرهن العملي والعاطفي وبالتالي فيصبحن ضحايا بقوة الإجبار، في حين يقف الرجال في الواجهة لقوة بائسة ظالمة، يبطشون بينما يضعون قناع القداسة ويخفون في الحقيقة ضعفاً خداعاً للذات.

من تنافس الأخوات، إلى مكافحة المرض وصولاً إلى الأمل والمغفرة اللذين لا بدّ منهما بعد ذنب كبير. صحيحٌ أنّ قضايا الفيلم مألوفة إلّا أنّه يستحيل أن يمرّ الفيلم إلّا ويحدث وقعاً كبيراً. ألبر عرف كيف يقدم هذه المشاكل بطريقته الخاصة، بوضوح جميل وسلسلة خلابة من اللقطات القريبة على الوجوه ومشاهد النقاش المسرحية. من ناحية أخرى، يمكن اعتبار فيلم ألبر حكاية خرافية مريرة، خاصة أن التسلسل الزمني الدقيق للأحداث أمر صعب، لا شيء يدل على أن الفيلم تدور أحداثه في هذه الألفية باستثناء السيارة الحديثة التي يعدن فيها في بداية الفيلم.

لا جدل في عشق المخرج للطبيعة، فيلمه يدور مع خلفية طبيعية لا حدود لها، مع صوت الرياح، وزيز الليل وطقطقة النار. لا بل إنّه يسقطها على شخصياته وقصته، عندما تختفي شخصياته تعود العقارب إلى جحورها. المشهد الخريفي ثمّ الشتوي، الضباب. كلّها صورٌ تناقض في جمالها الكآبة الجاثمة على الريف. يبدو أنّ ألبر استلهم مشهديته من فن الرسم، لقطات الفيلم يمكن أن تكون لوحة من عصر النهضة او لوحة باروكية مما يعزز الجو الخيالي للقصة. أهوال الطبيعة تسقط على حيوات أهل القرية. العزلة تنجم عن تساقط الثلوج، عقبة أمام تنقّل الشخصيات بحرية في الجزء الثاني من الفيلم، إنّه خط سردي متماشٍ مع التطور الدرامي على وقع الطبيعة. هذه الطبيعة الخطرة محور الفيلم، لا بل إنّها الفيلم بحد ذاته.

لم يأخذ إمين ألبر بيدنا بل رمى بنا في منتصف الحكاية، القصة بدأت منذ زمن وتستمر ونحن جئنا لنشهد فصلاً من فصولها، هذا هيكل اجتماعي قائم ولا يزال. موهبة ألبر أنه قدم حكاية بجدية بالغة وبطريقة ساحرة. إنّه أحد أجمل الأفلام التركية، ذمّ العادات البالية والنظام الاجتماعي البائس، لكنّ في الوقت عينه سحرنا بطبيعة بلده وتراثها وموسيقاها.

(*) يعرض قريباً في الصالات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024